كيف يُصنع الورق: رحلة التحول من الألياف إلى الصفحات

يُعد الورق أحد الابتكارات البشرية الأكثر تأثيرًا في تطور الحضارات، فقد لعب دورًا محوريًا في نقل المعرفة وتوثيق الأحداث، وساهم في التعليم والتجارة والإدارة منذ آلاف السنين. ورغم أن الورق قد يبدو منتجًا بسيطًا في مظهره، إلا أن صناعته تمر بمراحل معقدة ومتقنة، تعتمد على علوم الكيمياء والفيزياء والهندسة الصناعية. في هذا المقال الموسّع، سيتم التطرق إلى جميع مراحل صناعة الورق، من المصدر الطبيعي إلى المنتج النهائي، مع استعراض لتاريخه، تقنياته، أنواعه، والتحديات البيئية المرتبطة به.

تاريخ الورق وتطوره

بدأت صناعة الورق قبل ما يزيد عن ألفي عام في الصين، حيث يُنسب اختراعه إلى “تساي لون” عام 105 ميلادية، الذي استخدم لحاء الأشجار، والكتّان، وبقايا القنب. ومن الصين انتقلت هذه التقنية إلى الشرق الأوسط، خاصة إلى بغداد في القرن الثامن، ثم إلى الأندلس وأوروبا خلال العصور الوسطى، مما أسهم في نهضة معرفية واسعة.

مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تطورت صناعة الورق بشكل كبير بفضل ابتكار آلات متقدمة مثل آلة “فوردرينييه” التي مكنت من إنتاج الورق بشكل مستمر بدلاً من الطريقة اليدوية، وهو ما فتح المجال أمام طباعة الصحف والكتب على نطاق واسع.

المواد الخام لصناعة الورق

1. الخشب

الخشب هو المادة الخام الأساسية في صناعة الورق الحديثة، ويُستخرج من أشجار متنوعة أهمها:

• أشجار الصنوبر والتنوب (Softwood): تحتوي على ألياف طويلة تمنح الورق المتانة.

• أشجار القيقب والبتولا والأوكالبتوس (Hardwood): أليافها أقصر وتُستخدم لإنتاج ورق ناعم وذو ملمس جيد.

2. المواد المعاد تدويرها

بجانب الخشب، يتم استخدام الورق المُعاد تدويره كمصدر للألياف، مما يقلل الاعتماد على قطع الأشجار ويحافظ على البيئة.

3. ماء

يُستخدم الماء بكثافة في جميع مراحل إنتاج الورق، من مرحلة تكوين اللب إلى الغسل والمعالجة النهائية.

4. مواد كيميائية

• مواد مبيضة (مثل الكلور أو بيروكسيد الهيدروجين)

• مواد لاصقة (مثل النشا)

• مواد مالئة (مثل الكاولين أو كربونات الكالسيوم لتحسين بياض الورق وملمسه)

مراحل صناعة الورق

1. إعداد الألياف

أ. إزالة اللحاء:

يُقشر الخشب باستخدام آلات دوارة كبيرة، حيث يُزال اللحاء الخارجي لكونه يحتوي على شوائب وألوان غير مرغوبة.

ب. التقطيع:

يُقطع الخشب إلى رقائق صغيرة (Chips) تمهيدًا لطحنها وتحويلها إلى لب.

2. تحويل الخشب إلى لب (Pulping)

هذه المرحلة هي أساس عملية صناعة الورق، وتتم بطريقتين رئيسيتين:

أ. اللب الميكانيكي:

يُستخدم الطحن الميكانيكي عبر أحجار أو دواليب دوارة لاستخلاص الألياف. تحتفظ هذه الطريقة بمعظم مكونات الخشب، لكن الورق الناتج يكون أقل مقاومة للتآكل والزمن.

ب. اللب الكيميائي:

يُغلى الخشب في محاليل كيميائية (مثل كبريتات الصوديوم أو الكبريتيت) لفصل الألياف عن اللجنين (المادة اللاصقة الطبيعية في الخشب)، ويُنتج ورقًا ذا جودة عالية وطول عمر أطول.

3. الغسل والتنقية

يُغسل اللب للتخلص من الشوائب والمواد الكيميائية المتبقية، ثم يُمرر خلال منخل لفصل الألياف عن القطع الخشبية غير المفصولة.

4. التبييض

تُستخدم مواد مثل الكلور أو بدائل أقل ضررًا للبيئة (مثل الأكسجين أو بيروكسيد الهيدروجين) لتبييض الألياف ومنح الورق اللون الأبيض المطلوب، خاصة في الأوراق المستخدمة في الطباعة.

5. إعداد خليط الورق

يُضاف الماء بكميات كبيرة لتشكيل معجون مائي يحتوي على الألياف بنسبة حوالي 99% ماء و1% ألياف. يُخلط هذا المعجون مع مواد محسّنة مثل:

• الكاولين أو كربونات الكالسيوم: لتحسين بياض الورق وملمسه.

• النشا: لزيادة تماسك الورق.

• مواد مقاومة للماء: في حالة استخدام الورق في تطبيقات خاصة.

6. تشكيل الورق

أ. آلة الفوردرينييه:

يُضخ خليط الورق على حزام معدني متحرك ومثقّب يسمح بتصريف الماء تدريجيًا، فتبدأ الألياف بالتماسك معًا لتشكيل ورقة مستمرة.

ب. التجفيف:

تمر الورقة على أسطوانات معدنية ساخنة تُبخر المياه المتبقية حتى تصل نسبة الرطوبة إلى أقل من 5%.

ج. الكبس والضغط:

تُمرر الورقة بين بكرات ضغط لإزالة ما تبقى من رطوبة وزيادة التماسك.

7. الصقل واللف

تُصقل الورقة باستخدام بكرات ملساء لإعطائها ملمسًا ناعمًا ودرجة لمعان مناسبة حسب نوع الورق (لامع، غير لامع، نصف لامع). بعدها تُلف الورق في بكرات ضخمة أو تُقصّ إلى أحجام قياسية.

أنواع الورق

الأثر البيئي لصناعة الورق

تُعتبر صناعة الورق من الصناعات الأكثر استهلاكًا للموارد الطبيعية، وأهم التحديات البيئية التي تطرحها:

• قطع الغابات: تعد الأشجار المصدر الأساسي للألياف، وقطعها بشكل غير مستدام يؤدي إلى تدهور الغابات وفقدان التنوع البيولوجي.

• استهلاك الماء: تحتاج مصانع الورق إلى كميات هائلة من الماء، مما يشكل ضغطًا على الموارد المائية.

• التلوث الكيميائي: التبييض باستخدام الكلور وغيره من المركبات الكيميائية يؤدي إلى تصريف نفايات سامة في الأنهار والمياه الجوفية.

• الانبعاثات الكربونية: تحرق بعض المصانع البقايا العضوية لتوليد الطاقة، مما يؤدي إلى انبعاث ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة.

الورق المعاد تدويره

مع ازدياد الوعي البيئي، يُعتبر تدوير الورق من أفضل الحلول المستدامة. تمر عملية التدوير بالمراحل التالية:

1. جمع الورق المستعمل من المنازل، الشركات، المدارس.

2. الفرز بحسب النوع والجودة.

3. إزالة الحبر باستخدام مواد كيميائية أو رغوة هوائية.

4. إعادة تشكيل اللب بنفس طريقة الورق الخام.

5. التجفيف واللف لإنتاج ورق جديد.

إعادة تدوير طن واحد من الورق تُنقذ نحو 17 شجرة، وتُوفر أكثر من 26 ألف لتر ماء، وتقلل من استهلاك الكهرباء بنسبة 40%.

الابتكارات الحديثة في صناعة الورق

• الورق الإلكتروني: محاولات لتطوير ورق ذكي يحتوي على دوائر إلكترونية يمكن برمجتها للعرض والتفاعل.

• الورق من مصادر بديلة: مثل ألياف القنب، وسيقان القمح، وبقايا قصب السكر.

• تقنيات بدون ماء: تسعى بعض الشركات لتقليل استخدام الماء عبر استخدام ضغط الهواء أو الأشعة فوق البنفسجية.

التطبيقات الواسعة للورق في العصر الحديث

رغم الانتقال الجزئي إلى الوسائط الرقمية، لا يزال الورق يحتفظ بدوره الحيوي في عدد من المجالات:

• الطباعة والنشر

• التغليف الصناعي

• الصناعات الغذائية (المناديل، الأكياس الصحية)

• المجال التعليمي والإداري

• الفنون التشكيلية والتصميم

خاتمة

صناعة الورق هي مثال نموذجي على التفاعل بين الموارد الطبيعية والتكنولوجيا الصناعية. إنها عملية معقدة تبدأ من الألياف النباتية وتنتهي بمنتج يستخدم يوميًا في حياتنا. التحدي الذي يواجهه العالم اليوم هو كيفية جعل هذه الصناعة أكثر استدامة عبر تطوير تقنيات صديقة للبيئة وتوسيع نطاق إعادة التدوير، من أجل الحفاظ على هذا المورد الحيوي دون الإضرار بالنظم البيئية.

المراجع:

1. Smook, G.A. Handbook for Pulp and Paper Technologists. TAPPI Press.

2. Bajpai, Pratima. Recycling and Deinking of Recovered Paper. Elsevier.