عنوان المقال: أولياء الله وسبيل الولاية
تمهيد عام في مفهوم الولاية
إن الحديث عن أولياء الله الصالحين لا ينفصل عن جوهر الدين الإسلامي القائم على الإخلاص لله تعالى، ومجاهدة النفس، وتحقيق العبودية الكاملة للرب عز وجل. والولاية في أصلها منزلة عظيمة لا يبلغها الإنسان إلا بالسير في طريق الصفاء القلبي، والصدق الإيماني، والطهارة العملية. أولياء الله هم الذين أخلصوا لله فاختصّهم بقربه، وجعلهم محلّ عنايته، ورفعهم على الخلق بما استودع فيهم من التقوى والمعرفة والخشية.
وقد ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
“من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…” رواه البخاري.
إنها منزلة سامية لا تُنال بالتمني ولا بالدعوى، بل تُنال بالتحقق بمقامات الإيمان والتقوى، والمجاهدة المستمرة للنفس، والاستقامة على الطاعة في السر والعلن.
تعريف الولاية ومعناها الشرعي
الولاية في الاصطلاح الشرعي تعني القرب من الله تعالى والمحبة الخاصة التي يخص بها عباده المتقين. وأصل الولاية مشتق من “الولاء”، أي القرب والنصرة والمحبة. والوليّ في لغة العرب هو القريب والمحب والنصير.
وفي الاصطلاح: الولي هو كل مؤمن تقي، مستقيم على أمر الله، بعيد عن الشرك، ملازم للطاعة، متبرئ من المعاصي، متوكل على الله، موصول بالله.
قال تعالى:
“أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ” [يونس: 62-63].
فالإيمان والتقوى هما شرطا الولاية الحقيقيان، وكل من اجتمعت فيه هاتان الصفتان كان لله وليًّا، ولا يشترط في الولاية كرامات خارقة، وإنما الالتزام بشرع الله والتقوى الظاهرة والباطنة.
الخصائص الإيمانية لأولياء الله
للولاية خصائص عظيمة تميز صاحبها عن غيره، وهي التي تجعله في مقام القرب من الله عز وجل، ومن أهمها:
1. تحقيق التوحيد الخالص
التوحيد هو أساس الولاية، فلا يكون العبد وليًا لله وهو يشرك به أو يتوجه لغيره بالدعاء أو العبادة. أولياء الله هم أهل التوحيد الكامل، الذين لا يلتفتون إلى غير الله، ولا يرجون إلا وجهه.
2. الالتزام بالفرائض
جعل الله تعالى الفرائض أحب الأعمال إليه، فمن كان حريصًا على إقامتها والتقرب بها كان من أوليائه، ومن أعظم الفرائض الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وبر الوالدين، وغيرها من الأوامر الشرعية.
3. الإكثار من النوافل
النوافل هي طريق المحبة، ومن تقرب إلى الله بها نال محبته، وإذا أحبه الله كان سمعه وبصره ويده ورجله، كما في الحديث الشريف. والنوافل تشمل صلاة الضحى، قيام الليل، صيام التطوع، كثرة الذكر، وغيرها.
4. الخشية والخوف من الله
من أبرز سمات أولياء الله الخشية، وهي خوف مقرون بالعلم، قال تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” [فاطر: 28]. فالولي دائم المراقبة، خائف من سوء الخاتمة، حريص على طاعة ربه.
5. الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة
الولي لا يركن إلى الدنيا، ولا يُفتن بزخارفها، بل يجعلها مزرعة للآخرة، فيُعرض عن الحرام، ويقتصر من الحلال على ما يعينه على الطاعة، ويعيش بقلب خال من تعظيم الدنيا.
6. الورع ومجانبة المعاصي
الورع هو الترفع عن الشبهات، وهو طريق النجاة، ومن علامات الولاية ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس. والولي لا يستهين بالذنوب، بل يعدها صغيرة في حق الله العظيم.
مقامات الولاية في الإسلام
الولاية ليست درجة واحدة، بل هي مراتب ومقامات، تتفاوت فيها النفوس بحسب صدقها وقربها من الله. ويمكن تقسيم مقامات الولاية إلى:
| المرتبة | الصفة الأساسية | الشرح |
|---|---|---|
| ولاية عامة | الإيمان والتقوى | وهي تشمل كل مسلم تقي، مستقيم في دينه. |
| ولاية خاصة | القرب والاصطفاء والمحبة | وهي منزلة أعلى، يختص بها الله من أحبه، فيكون له شرف المحبة والقرب والمعية. |
| ولاية خاصة الخاصة | الفناء في الطاعة واليقين الكامل | وهي منزلة نادرة، لا يبلغها إلا من سلك طريقًا طويلًا في تزكية النفس، وتحقيق الإحسان، والانقطاع التام لله عز وجل. |
طريق الوصول إلى الولاية
من أراد أن يكون من أولياء الله فلا بد له من السير في طريق طويل يبدأ بالإيمان، ويُبنى على اليقين، ويُتوّج بالتقوى. ويمكن تلخيص هذا الطريق في الخطوات الآتية:
أولاً: تصحيح العقيدة والنية
العقيدة الصحيحة هي أساس الدين، ومن لا يُصحح توحيده واعتقاده لا يمكن أن يكون من أولياء الله. يجب إخلاص النية، وتجريد القلب لله تعالى، وتجنب البدع والخرافات.
ثانيًا: الالتزام الكامل بالفرائض
أداء الصلاة في وقتها، المحافظة على الصيام، إخراج الزكاة، الحج، وغيرها من أركان الإسلام، هو أول مراتب القرب من الله، وكل تفريط فيها حجاب عن الولاية.
ثالثًا: الإكثار من ذكر الله
الذكر هو غذاء الأرواح، ومن أكثر ذكر الله أحبه الله، واطمأن قلبه، وزال عنه الغفلة. قال تعالى:
“الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” [الرعد: 28].
رابعًا: تزكية النفس وتطهير القلب
النفس تحتاج إلى مجاهدة وتربية، ومن صفى قلبه من الحقد، والرياء، والحسد، والكبر، صار قريبًا من الله. ومن استسلم لهواه، وتبع شهواته، حُجب عن الولاية.
خامسًا: مصاحبة الصالحين
الرفقة الصالحة من أعظم الوسائل للوصول إلى مراتب القرب، فمن جالس أولياء الله، تأثر بحالهم، وارتقى في مدارج السالكين.
الكرامات بين الحقيقة والوهم
الكرامات هي أمور خارقة للعادة، يُجريها الله على يد بعض أوليائه، لكنها ليست شرطًا للولاية، ولا دليلًا على المحبة الإلهية بالضرورة، بل إن أعظم كرامة للعبد أن يُثبّته الله على الإيمان والطاعة حتى يلقاه.
وقد بيّن العلماء أن الكرامات لا تكون مناقضة للشرع، ولا تُستخدم لإثبات ولاية شخص بعينه، بل تُعدّ من آثار الصدق والإخلاص، وتحدث بقدر الله لحكمة يعلمها.
علامات أولياء الله الحقيقيين
يُعرف أولياء الله بعدة علامات واضحة ومجتمعة:
-
الاستقامة على منهج الإسلام ظاهرًا وباطنًا.
-
التحقق بالإيمان والتقوى لا بالشعارات والادعاءات.
-
البُعد عن المعاصي والبدع وتمسكهم بالسنة.
-
الخشية والخشوع والسكينة في أقوالهم وأفعالهم.
-
التواضع واللين لا التفاخر والادعاء.
-
خدمة الناس والدعوة إلى الخير من غير انتظار مقابل.
من نماذج أولياء الله في التاريخ الإسلامي
عبر تاريخ الأمة الإسلامية برز رجال ونساء ساروا في طريق الولاية، وكانوا منارات هدى ونور، ومن هؤلاء:
-
أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أول من أسلم من الرجال، وأعظم الناس إيمانًا بعد الأنبياء.
-
عمر بن الخطاب: صاحب البصيرة والفراسة، الذي وافق الوحي في مواضع عديدة.
-
الحسن البصري: إمام الزهد، والعالم الورع، والمربي الكبير.
-
رابعة العدوية: رمز المحبة الإلهية الخالصة، وسيدة نساء الزهاد.
-
عبد القادر الجيلاني: من كبار العلماء والصالحين، عُرف بعلمه وورعه وتقواه.
ثمرات الولاية في الدنيا والآخرة
من ثمرات الولاية في الدنيا:
-
الحفظ والرعاية الإلهية في النفس والأهل والمال.
-
طمأنينة القلب وسكون الروح.
-
البصيرة في الأمور والتمييز بين الحق والباطل.
-
المحبة في قلوب الناس.
-
الكرامة عند الله في الشدائد.
أما في الآخرة، فجزاؤهم:
-
النجاة من العذاب.
-
الرفعة في الجنة.
-
القرب من الأنبياء.
-
رضوان الله الأكبر.
خاتمة منهجية
الولاية ليست شعارًا يُرفع، ولا كرامة تُطلب، بل مقام يُبنى بالإخلاص، ويُحفظ بالتقوى، ويُنمّى بالعلم والعمل. وكل مؤمن تقي هو في طريق الولاية، ومن ثبت على الحق حتى الموت، ختم له الله بالولاية الكبرى. وليس من شرط الولاية أن يعرف الإنسان نفسه وليًا، بل من أخلص لله وصدق معه، تولاه الله بحفظه ورعايته وإن لم يشعر بذلك.
المراجع:
-
ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
-
الإمام النووي، رياض الصالحين.
