صنع وتقطير ماء الزهر

يُعتبر ماء الزهر من المستخلصات الطبيعية العطرية الأكثر استخداماً في المطبخ الشرقي والطب الشعبي، وهو ناتج عملية تقطير زهور شجرة النارنج (البرتقال المر)، ويتميّز برائحته الزكية وفوائده المتعددة سواء في الطهي، أو التجميل، أو التداوي. تعود جذور تحضير ماء الزهر إلى تقاليد عريقة في بلدان مثل لبنان وسوريا والمغرب وتونس، حيث يُعتبر جزءاً من التراث الغذائي والطبي العلاجي. يعتمد إنتاجه على تقنيات تقليدية دقيقة تُورث من جيل إلى آخر، وتدمج بين البساطة والدقة.

أصل ماء الزهر ومصادره

ينتج ماء الزهر من زهور النارنج (Citrus aurantium)، وهي نوع من الحمضيات يختلف عن البرتقال الحلو، إذ يتميّز برائحة أقوى ونكهة مرّة قليلاً. تُقطف الأزهار في فصل الربيع، عادةً في شهري مارس وأبريل، حيث تكون بتلات الزهر في أوج تفتحها وعطرها.

الزهر المستخدم يجب أن يكون طازجاً ونقياً وخالياً من أي مواد كيميائية، ويتم تجفيف جزء منه واستخدام الجزء الآخر طازجاً للتقطير مباشرة، مما يحافظ على المركبات الطيارة التي تعطيه رائحته المميزة.

مراحل تحضير ماء الزهر

يتطلب تحضير ماء الزهر خطوات دقيقة ومواد بسيطة لكنها تحتاج إلى مهارة ودراية بالعملية. أهم المكونات هي:

• زهور النارنج الطازجة

• ماء نقي

• جهاز تقطير تقليدي (القرّاقة أو الكرك)

1. جمع الزهور

يبدأ التحضير بجمع الزهور في الصباح الباكر، حين تكون الزهرة مشبعة بالندى والزيوت الطيّارة. يجب فرز الزهور بعناية لإزالة أي شوائب أو أوراق غير مرغوب بها.

2. نقع الزهور

تُغسل الزهور بلطف بماء بارد لإزالة الغبار، ثم تُنقع في كمية من الماء لعدة ساعات لتساعد على إطلاق الرائحة والزيوت.

3. التقطير

توضع الزهور المنقوعة في وعاء نحاسي كبير يُعرف محلياً باسم “القرّاقة”، يُغلق بإحكام ويُسخن على نار معتدلة. يتحول بخار الماء المحمّل بالزيوت الطيارة من الزهور إلى أنابيب تبريد (اللولب المعدني) حيث يتكثف ويتحول إلى سائل يُجمع في وعاء خاص يُسمى “القرعة” أو “الزجاجة المستقبِلة”.

4. فصل الماء عن الزيت

ينتج عن هذه العملية نوعان من السائل: ماء الزهر، والزيت العطري المركز (زيت زهر النارنج). يُفصل الزيت عن الماء لاحتوائه على خصائص مركزة يُستخدم غالباً في صناعة العطور والمستحضرات الطبية.

5. التعبئة والتخزين

يُخزن ماء الزهر في زجاجات داكنة اللون لتقليل تعرضه للضوء، في مكان بارد وجاف للحفاظ على جودته. يمكن أن يُستخدم لعدة أشهر بشرط الحفاظ عليه بعيداً عن مصادر الحرارة والتلوث.

التركيب الكيميائي لماء الزهر

يتكوّن ماء الزهر من مكونات طيّارة ومعقّدة تشمل مركبات الفلافونويد، والجيرانيول، والنيرول، واللينالول، وهي مسؤولة عن خصائصه العطرية والطبية. الجدول التالي يوضح أبرز المكونات الفعالة في ماء الزهر:

الفوائد الطبية لماء الزهر

اشتهر ماء الزهر في الطب الشعبي العربي والطب التقليدي في العديد من الثقافات بخصائصه العلاجية المتنوعة، ومنها:

• مهدئ للجهاز العصبي: يُستخدم في حالات الأرق والقلق والتوتر العصبي، إذ يُضاف إلى المشروبات الساخنة كالشاي أو يُستنشق مباشرة.

• مفيد للمعدة: يُساهم في تخفيف التشنجات المعوية ومشاكل القولون العصبي، ويُستخدم كمكوّن في بعض الأدوية التقليدية.

• مطهر طبيعي: بفضل خصائصه المضادة للبكتيريا، يُستخدم موضعياً لعلاج الجروح الطفيفة وحب الشباب.

• منشط للبشرة: يدخل في صناعة العديد من مستحضرات العناية بالبشرة لتأثيره المنعّم والمنعش.

• مفيد للأطفال: يُضاف بجرعات صغيرة إلى مشروبات الأطفال كمهدئ خفيف للمغص والاضطرابات الهضمية.

استخدامات ماء الزهر في الطهي

يمثل ماء الزهر مكوناً أساسياً في المطبخ الشرقي والفرنسي والمغاربي، حيث يُستخدم لإضفاء نكهة فريدة على الحلويات والمشروبات. ومن أشهر استخداماته:

• الحلويات: مثل المعمول، البقلاوة، الكنافة، الملبّس، والمربى.

• المشروبات: يُضاف إلى الشاي أو القهوة البيضاء (قهوة خالية من البن، تحتوي على ماء زهر وسكر فقط).

• الخبز والمعجنات: يُستخدم أحياناً في وصفات الخبز المعطر أو الكعك.

• السلطات والفواكه: يُرشّ ماء الزهر أحياناً فوق سلطة الفواكه لإضفاء نكهة مميزة.

دور ماء الزهر في التجميل والعناية الشخصية

دخل ماء الزهر منذ قرون في تركيبات مستحضرات التجميل المنزلية والطبيعية لما له من فوائد مباشرة للبشرة والشعر:

• تونر طبيعي للبشرة: يُستخدم كمنعّم ومنظّف للمسام، ويقلل من احمرار الجلد وتهيّجه.

• مزيل طبيعي للمكياج: يُستخدم مع قطعة قطنية لإزالة آثار المكياج بلطف.

• مقاوم لعلامات التقدّم في السن: تساعد مضادات الأكسدة الموجودة فيه على محاربة التجاعيد وتعزيز إشراقة البشرة.

• معطّر للشعر: يُرشّ على الشعر لإعطائه رائحة زكية وإنعاش فروة الرأس.

الماء العطري والزيت الأساسي: الفرق في الاستخدام

يجب التمييز بين ماء الزهر (الماء العطري الناتج من التقطير) والزيت الأساسي المركز الذي يتم استخراجه أيضاً من زهر النارنج. ماء الزهر لطيف وآمن للاستخدام الداخلي والخارجي، بينما الزيت المركز يُستخدم بكميات ضئيلة جداً وغالباً في المنتجات الصيدلانية والعطرية ولا يُنصح بابتلاعه.

التخزين والصلاحية

لحفظ ماء الزهر لأطول فترة ممكنة دون فقدان خصائصه:

• يُخزن في عبوة زجاجية داكنة اللون ومحكمة الإغلاق.

• يُحفظ في مكان بارد بعيداً عن الشمس.

• يُفضل استخدامه خلال 6 إلى 12 شهراً من تاريخ تحضيره لضمان الجودة.

الصناعات المعاصرة لماء الزهر

رغم أن الكثير من المجتمعات ما زالت تعتمد الطرق التقليدية، إلا أن ماء الزهر أصبح يُنتج أيضاً على نطاق صناعي باستخدام تقنيات التقطير بالبخار الحديثة. لكنّ كثيراً من الخبراء والطهاة يرون أن ماء الزهر التقليدي المحضَّر منزلياً أو في القرى يحتفظ بنكهة أقوى وأكثر نقاءً، لاحتوائه على نسبة أكبر من المركبات الطيّارة.

ملاحظات حول الاستخدام الآمن

رغم فوائد ماء الزهر المتعددة، ينبغي مراعاة الأمور التالية:

• عدم الإفراط في الاستخدام، خاصة للأطفال والحوامل.

• التأكد من مصدر الزهر وخلوّه من المبيدات الكيميائية.

• تجنب ملامسة العينين مباشرة لتفادي التهيّج.

• يُنصح الأشخاص الذين يعانون من حساسية تجاه مركبات الحمضيات باستشارة الطبيب قبل الاستعمال.

خاتمة

يُعد ماء الزهر من الكنوز الطبيعية التي تجسّد تراثاً غنياً بالمعرفة والفائدة، يجمع بين العطر والطعم والعلاج، ويتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمعات العربية. إن عملية تقطير ماء الزهر ليست مجرد إنتاج مادة عطرية، بل هي طقس موسمي يحتفل بالزهر والجمال والنقاء، ما يجعلها أحد أهم عناصر الهوية الثقافية والغذائية لمنطقة البحر المتوسط.

المصادر والمراجع:

1. Handbook of Essential Oils, Second Edition, K. Hüsnü Can Baser & Gerhard Buchbauer, 2015

2. Aromatherapy Science: A Guide for Healthcare Professionals, Maria Lis-Balchin, 2006

3. Journal of Ethnopharmacology, Elsevier, Volume 109, Issue 3, 2007

4. الموروث الشعبي في الصناعات التقليدية العربية، المركز الثقافي العربي، 2010

5. وزارة الزراعة اللبنانية – النشرة الزراعية حول إنتاج الزيوت العطرية