صحة حديث “ليس من البر الصوم في السفر”
من المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد شرعت للإنسان الكثير من الأحكام التي تهدف إلى تسهيل حياة المسلمين بما يتناسب مع طبيعتهم وظروفهم. ومن هذه الأحكام ما يتعلق بالصيام في السفر، حيث ورد في الحديث النبوي الشريف: “ليس من البر الصوم في السفر”، وهو حديث تباينت الآراء حوله بين العلماء والمحدثين. في هذا المقال، سوف نتناول صحة هذا الحديث، ونناقش المعنى المراد به، وما يمكن استنباطه من الدروس الفقهية والعلمية التي تنطوي عليه.
أولاً: نص الحديث ولفظاته
يعد الحديث موضوع النقاش من الأحاديث التي وردت في كتب الحديث الكبرى، ومنها صحيح مسلم وسنن أبي داود، لكن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث باللفظ نفسه في جميع الروايات. في بعض الروايات، ورد الحديث بلفظ “ليس من البر الصوم في السفر”، وهو الذي سنبحثه في هذا المقال. وعلى الرغم من تباين الألفاظ بين الروايات، فإن الفكرة التي يتحدث عنها الحديث هي ذات مغزى واحد.
ثانياً: مراجع الحديث ودرجته من حيث الصحة
فيما يتعلق بصحة الحديث، نجد أن العلماء قد اختلفوا حول درجة صحته وتفسيره. يرى بعض العلماء أن الحديث صحيح، بينما ينظر آخرون إلى أن الحديث ضعيف أو غير موثق.
-
الرأي القائل بصحة الحديث: في هذا السياق، يعتبر الحديث صحيحًا وفقًا لبعض العلماء، إذ ورد في مصادر متقدمة مثل “صحيح مسلم” و”سنن أبي داود”. هذه الكتب تحتل مكانة مرموقة في علم الحديث، وتعد من المصادر المعتمدة في تصحيح الأحاديث النبوية. ومع ذلك، فقد تباينت آراء العلماء في تفسير الحديث بشكل دقيق.
-
الرأي القائل بضعف الحديث: من ناحية أخرى، هناك من العلماء من يرى أن الحديث ضعيف، وقد استدلوا في ذلك على بعض النقاط. من أبرز تلك النقاط هو أن الحديث ورد عن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وكان يذكره في سياق معين يمكن أن يكون قد وقع فيه بعض اللبس. كما أن هناك اختلافًا في بعض الروايات حول التفسير الدقيق للفظ “ليس من البر”، مما يجعل فهم الحديث عرضة للتأويلات المختلفة.
بالتالي، يمكن القول إن الحديث يظهر في بعض المصادر مع صحة أعلى، بينما قد يشوبه بعض الضعف في مصادر أخرى. بناءً على ذلك، يمكن التوصل إلى استنتاجات متعددة حول درجة صحته.
ثالثاً: تفسير الحديث
تفسير حديث “ليس من البر الصوم في السفر” يتطلب أن نتطرق إلى معانيه اللغوية والشرعية بشكل مفصل. فالبر في اللغة يشير إلى ما هو صالح، وهو العمل الذي يتصف بالاستقامة والخير. وبناءً عليه، يمكن فهم الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضح أن الامتناع عن الطعام والشراب في السفر ليس من البر في حد ذاته، خصوصًا إذا كان ذلك يؤدي إلى مشقة غير ضرورية على الشخص.
السياق التاريخي للحديث: كما هو معروف، كانت الحياة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تختلف بشكل كبير عن حياتنا اليوم. السفر في تلك الفترة كان شاقًا، ويستغرق وقتًا طويلاً، وكان يتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا. ولذلك، كان الصيام في السفر قد يشكل عبئًا إضافيًا على المسافر، مما يجعل الامتناع عن الصيام في السفر خيارًا أفضل في مثل تلك الظروف.
رابعاً: المقاصد الشرعية من الحديث
إن الحديث “ليس من البر الصوم في السفر” يندرج تحت التوجيهات الشرعية التي تهدف إلى تسهيل حياة المسلم وتخفيف العبء عنه في الحالات التي قد تؤدي فيها بعض العبادات إلى مشقة غير مبررة. وقد يتعين هنا أن نفهم أن الدين الإسلامي لم يهدف إلى تكليف الناس ما لا يطيقون. فالصيام هو عبادة عظيمة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد رفع عن المسافر هذا التكليف بسبب الظروف الخاصة التي يمر بها.
المرونة في الشريعة الإسلامية: من المقاصد الشرعية المهمة التي يمكن أن نستنبطها من هذا الحديث هو المرونة التي يوفرها الإسلام للمسلمين في مواجهة صعوبات الحياة. إن الإسلام لا يطلب من المسلم أن يتبع طقوس العبادة بشكل يسبب له ضررًا أو مشقة. بل على العكس، نجد أن الإسلام يوجه المسلمين إلى تيسير الأمور، ومنها تيسير العبادة بما يتناسب مع ظروفهم. وهذه رسالة أساسية تفيد بأن الشريعة الإسلامية تراعي حاجات الناس الواقعية وتخفف عنهم في الحالات الاستثنائية.
خامساً: التأصيل الفقهي لفكرة الصوم في السفر
على الرغم من أن حديث “ليس من البر الصوم في السفر” يبدو ظاهريًا في معارضته لصيام المسافر، إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في تفسيره، وكل مدرسة فقهية قد قدمت تفسيرات متعددة بناءً على فهمها للسياق الذي ورد فيه الحديث.
-
مذهب المالكية: يرى المالكية أن المسافر لا يجب عليه الصيام في السفر إذا كان السفر يقتضي مشقة، ولهم في ذلك تأصيل شرعي مستند إلى القاعدة الفقهية “المشقة تجلب التيسير”. وبالتالي، يستحسن في مذهب المالكية أن يفطر المسافر إذا كان السفر طويلاً أو صعبًا.
-
مذهب الشافعية: يؤكد الشافعية أيضًا على أنه يجوز للمسافر أن يفطر في السفر، ولا يجب عليه أن يصوم إذا كانت هناك مشقة، لكنهم يختلفون في كيفية التعامل مع من يصر على الصيام في السفر. بعض الشافعية يرون أن من يصوم في السفر رغم المشقة، فإنه قد ارتكب أمرًا غير مرغوب فيه في الإسلام.
-
مذهب الحنفية: لا يختلف مذهب الحنفية كثيرًا عن بقية المذاهب في منح المسافر رخصة الإفطار. ويرون أن الصيام في السفر ليس فرضًا، وأنه يمكن للإنسان أن يفطر بما يتناسب مع حالته.
-
مذهب الحنابلة: يوافق الحنابلة على أن المسافر يمكنه أن يفطر في السفر إذا كان السفر شاقًا، ولكنهم يذهبون إلى أنه لو قام المسافر بالصيام مع وجود المشقة، فإن ذلك لا يعد مكروهًا، بل يمكن أن يُعتبر أجرًا له إذا لم يكن الصيام يؤدي إلى ضرر صحي أو بدني.
سادساً: التأثيرات النفسية والصحية للصيام في السفر
تجدر الإشارة إلى أن الصيام في السفر قد يترتب عليه تأثيرات صحية ونفسية. ففي الحالات التي تكون فيها المشقة كبيرة، قد يؤدي الصيام إلى إضعاف قدرة الجسم على التحمل، ويزيد من تعب المسافر، مما يجعل القيام بالعبادات الأخرى صعبًا. من هذه الزاوية، يمكن القول إن الشريعة الإسلامية قد سعت إلى الحفاظ على صحة الإنسان وراحته في السفر، وذلك بجعل الإفطار رخصة للمسافر.
سابعاً: الختام والتوجيهات العملية
في ضوء ما تم عرضه من أقوال الفقهاء وتحليل الحديث الشريف، يمكننا أن نستخلص عدة توجيهات عملية للمسلمين في وقتنا الحالي:
-
التيسير والتسهيل: إن الشريعة الإسلامية لا تطلب من المسلم أن يبالغ في العبادة لدرجة الضرر، بل أن تيسير الأمور هو مقصد رئيسي.
-
الاهتمام بالصحة: من الواجب على المسلم أن يولي اهتمامًا لحالته الصحية أثناء السفر وألا يحمّل نفسه ما لا طاقة له به.
-
إدراك مرونة الدين: يجب أن يعي المسلمون أن الدين ليس تشددًا في اتباع الطقوس بل هو تسهيل لحياة البشر بما يتناسب مع ظروفهم.
المصادر:
-
صحيح مسلم
-
سنن أبي داود
