شجرة الدر: الملكة الأكثر فطنة وفتنة في التاريخ الإسلامي

تُعتبر شجرة الدر من أبرز الشخصيات النسائية التي تركت بصمة لا تُمحى في التاريخ الإسلامي، خاصة خلال فترة الحروب الصليبية وما تبعها من أحداث سياسية معقدة في مصر وبلاد الشام. تجمع شخصية شجرة الدر بين الحكمة والفطنة والفتنة، حيث استطاعت أن تحكم مصر بعد وفاة زوجها السلطان الصالح نجم الدين أيوب، لتصبح أول امرأة تحكم البلاد في العصر الإسلامي بشكل رسمي، رغم كل التحديات التي واجهتها في مجتمع ذكوري صارم.

النشأة والبداية: من الخادمة إلى السلطانة

شجرة الدر كانت في الأصل من الجواري، ويُقال إنها كانت جارية تركية أو كردية، دخلت قصر السلطان الصالح نجم الدين أيوب كجارية قبل أن تصبح زوجته وأميرة. تتميز قصتها بأنها مثال نادر على امرأة استطاعت أن ترتقي في سلم السلطة في ظروف قاسية ومليئة بالمكائد السياسية، كما كانت تُعرف بجمالها الفاتن وذكائها الحاد، مما أهلها لكسب احترام وحب السلطان.

كانت شجرة الدر شخصية مركبة، تجمع بين حُسن التصرف والحزم والدهاء، إذ لعبت دورًا رئيسيًا في إدارة شؤون الدولة حين كان السلطان مشغولًا بالحروب، وبخاصة خلال الحملة الصليبية السابعة التي قادها الملك لويس التاسع الفرنسي. وقد ساهمت بشكل كبير في تخفيف حدة الأزمة التي ألمت بالسلطنة بعد أسر السلطان الصالح أثناء الحملة.

فترة حكم شجرة الدر: مفترق طرق في تاريخ مصر

بعد وفاة السلطان الصالح نجم الدين أيوب إثر مرضه، وُجهت الأنظار إلى شجرة الدر التي تصدرت المشهد السياسي في مصر. كانت مصر آنذاك تعيش أزمة حادة بين قوى داخلية وخارجية، ولم تكن السلطة مستقرة. قررت شجرة الدر أن تأخذ زمام الأمور، فعملت على عقد تحالفات مهمة مع القادة العسكريين والعلماء، بالإضافة إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي للدولة.

بقيت شجرة الدر تحكم فعليًا رغم عدم إعلانها رسميًا كسلطانة لفترة، حيث كانت تحكم بالنيابة عن السلطان المعلن في البداية. لكن بعد مقتل السلطان توران شاه ابن الصالح، أعلنت شجرة الدر نفسها سلطانة على مصر، مما شكّل حدثًا غير مسبوق في التاريخ الإسلامي، إذ لم يكن معروفًا أن امرأة تستطيع الحكم بمفردها في تلك الفترة.

قادها ذكاؤها السياسي إلى إبرام اتفاقات مع الصليبيين في محاولة لإحلال السلام، كما عملت على تقوية الجيش وتنظيم الإدارة والمالية، مستفيدة من خبراتها السابقة في القصر. ولكن هذا الحكم لم يدم طويلاً بسبب المؤامرات التي حيكت ضدها من قبل الأمراء الذين لم يرضوا بحكم امرأة، ما أدى في نهاية المطاف إلى اغتيالها.

شخصية شجرة الدر: بين الفطنة والفتنة

يمكن القول إن شجرة الدر تجسد نموذج المرأة القوية في مواجهة الضغوطات السياسية والاجتماعية. فطنتها جعلتها تسيطر على زمام الأمور في أصعب الظروف، وفتنتها التي لم تكن فقط جمالًا خارجيًا، بل ذكاءً في إدارة الأزمات وحسن استغلال الفرص، جعلتها تبرز وسط الحلبة السياسية.

تميزت شجرة الدر كذلك بقوة إرادتها وقدرتها على اتخاذ القرارات المصيرية التي كان لها أثر مباشر في مصير الدولة الأيوبية في تلك الفترة. كان لها موقف حاسم أثناء حصار دمياط ووقوفها بحزم أمام قوات الحملة الصليبية، حيث تمكنت من إدارة الموقف الدبلوماسي والعسكري بحنكة.

إرث شجرة الدر في التاريخ

على الرغم من أن فترة حكم شجرة الدر كانت قصيرة ومليئة بالتحديات، إلا أن إرثها التاريخي لا يقل أهمية عن إرث سلاطين وقادة كبار. فهي أول امرأة تحكم مصر في العصر الإسلامي، ورمز للمرأة التي كسرت الحواجز التقليدية لتثبت مكانتها في ساحة السياسة.

ساهمت شجرة الدر في إعطاء صورة مختلفة عن النساء في ذلك العصر، فهي لم تكن مجرد رمز للجمال أو الزوجة السلطانية، بل كانت فاعلة حقيقية وذات تأثير قوي على مستوى الدولة والسياسة. وقد خلّفت قصة حياتها وإدارتها للسلطة مادة دسمة للباحثين والمؤرخين الذين يرون فيها نموذجاً نادراً من القوة والدهاء النسائي في التاريخ الإسلامي.

جدول يوضح أهم محطات حياة شجرة الدر

العوامل التي ساعدت على نجاح شجرة الدر

نجحت شجرة الدر في فرض نفسها على المشهد السياسي بسبب عدة عوامل، أهمها:

• ذكاؤها السياسي: حيث استطاعت قراءة الأوضاع المعقدة وإيجاد حلول وسطية تناسب الجميع.

• دعم الجيش والأمراء: تمكنت من كسب دعم الجيش في وقت حرج كان يمكن أن يشهد انقسامًا أو تمردًا.

• مهارتها في الدبلوماسية: لعبت دور الوسيط بين الدولة الأيوبية والصليبيين، ونجحت في التفاوض على وقف إطلاق النار.

• شخصيتها القوية: لم تكن امرأة ضعيفة أو تابعة، بل كانت قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة.

• الاستفادة من ظروف الأزمة: حين كانت مصر في حالة ضعف واضطراب، استثمرت هذه الظروف لتثبت نفوذها.

تأثير حكم شجرة الدر على دور المرأة في الإسلام

بينما كان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت يضع قيودًا كبيرة على دور المرأة في السياسة، جاءت شجرة الدر كاستثناء أثبت أن المرأة قادرة على تحمل المسؤولية العليا وإدارة شؤون الدولة بكفاءة. رغم أن حكمها لم يستمر طويلًا، إلا أن تأثيرها كان واضحًا في فتح باب النقاش حول إمكانية مشاركة المرأة في الحكم.

لقد أكدت شجرة الدر أن المرأة ليست فقط رمزا للجمال والأنوثة، بل هي كيان سياسي قادر على مواجهة التحديات وصنع القرار. وعلى الرغم من قسوة الظروف التي أحاطت بها، تبقى قصتها منارة تُضيء درب النساء في التاريخ الإسلامي وتلهم الباحثين لفهم أدوار النساء القويات في العصور الماضية.

خلاصة

شجرة الدر ليست مجرد اسم في صفحات التاريخ، بل هي مثال حي على الفطنة والفتنة التي اجتمعت في شخصية واحدة. حكمت مصر في أوقات عصيبة، وأثبتت أن المرأة يمكن أن تكون رمزًا للقوة السياسية والقيادة الحكيمة. رحلت حياتها تحمل في طياتها دروسًا كثيرة حول القوة والإرادة والحكمة، مما يجعلها واحدة من أعظم النساء في التاريخ الإسلامي والعالمي.

المراجع:

• الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك. دار الفكر، بيروت، 1990.

• ابن تغري بردي، جمال الدين. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. مكتبة مصر، القاهرة، 2001.