شارل العاشر: آخر ملوك آل بوربون في فرنسا وسقوط الملكية المطلقة

يُعد شارل العاشر واحداً من أبرز الشخصيات الملكية في التاريخ الفرنسي الحديث، وقد مثّل عهده نهاية سلالة آل بوربون التقليدية التي حكمت فرنسا لقرون. عاش في مرحلة حرجة من التحولات السياسية والاجتماعية التي هزّت أركان أوروبا بأسرها، خاصةً في ظل التوترات المتصاعدة بين القوى الملكية المحافظة والتيارات الليبرالية الثورية التي نشأت بعد الثورة الفرنسية. جسد شارل العاشر نموذج الملك المحافظ الذي تمسك بالمطلقات الملكية ورفض التنازلات، مما أدى في النهاية إلى إسقاط حكمه في ثورة يوليو 1830.

النشأة والخلفية العائلية

وُلد شارل فيليب (Charles-Philippe) المعروف لاحقاً باسم شارل العاشر في 9 أكتوبر 1757 في قصر فرساي، وكان الابن الأصغر للدوفين لويس، ابن الملك لويس الخامس عشر، وزوجته ماري جوزفين من ساكسونيا. كان شارل شقيقًا للملك لويس السادس عشر، الذي أُعدم خلال الثورة الفرنسية، ولويس الثامن عشر، الذي تولى العرش بعد سقوط نابليون بونابرت.

نشأ شارل في كنف العائلة الملكية الفرنسية وتلقى تعليماً أرستقراطياً كلاسيكياً، حيث درس الأدب الكلاسيكي واللاهوت والفروسية، كما تم إعداده ليتولى أدواراً عسكرية وإدارية ضمن النظام الملكي المطلق. انخرط مبكراً في الحياة العسكرية وحمل لقب “كونت أرتوا”، وشارك في العديد من الحملات العسكرية، وهو ما أكسبه مكانة بين النبلاء والعسكريين رغم افتقاده لخبرة استراتيجية معمقة.

شارل العاشر والثورة الفرنسية

عندما اندلعت الثورة الفرنسية في عام 1789، وقف شارل على الضفة المحافظة، مناصراً للنظام الملكي الوراثي ومعارضاً للتغيرات التي جلبتها الثورة من مبادئ الحرية والمساواة والعدالة. هرب من فرنسا عام 1791 إثر تصاعد الاحتجاجات الشعبية وتهديدات الثورة، ولجأ إلى دول أوروبية مثل إنجلترا، وبروسيا، والنمسا، حيث عاش في المنفى قرابة 23 عاماً.

أثناء منفاه، قاد شارل الجناح المتشدد من المنفيين البوربونيين، وحث على التدخل الخارجي لاستعادة النظام الملكي في فرنسا، وشارك في حشد الدعم للتحالفات الأوروبية ضد الجمهورية الفرنسية ونابليون بونابرت. ظل يتبنى أفكاراً محافظة بشدة، وكان معارضاً لكل أشكال الإصلاح الدستوري أو الليبرالي.

العودة إلى فرنسا وتوليه العرش

بعد سقوط نابليون في 1814 وعودة آل بوربون إلى العرش فيما عُرف بفترة “الاستعادة” (La Restauration)، عاد شارل إلى فرنسا حيث رحب به أخوه الملك لويس الثامن عشر، رغم الخلافات بينهما بشأن كيفية إدارة الحكم. وبعد وفاة لويس الثامن عشر عام 1824، اعتلى شارل العاشر العرش الفرنسي.

بصفته ملكاً، حاول شارل العاشر إعادة تفعيل النموذج الملكي القديم، رافضاً الكثير من الإصلاحات الليبرالية التي فُرضت خلال الثورة والإمبراطورية النابليونية. تميز عهده بترسيخ السياسات الرجعية، فقام بإعادة هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، وأعاد النبلاء إلى مناصبهم السابقة، وشرّع قوانين تعوّض الطبقة الأرستقراطية عن خسائرها أثناء الثورة.

السياسة الداخلية والمحافظة الشديدة

تميز عهد شارل العاشر بسياسات محافظة عميقة، فعمل على تقليص الحريات العامة، وضيق الخناق على الصحافة، وأعاد نفوذ رجال الدين الكاثوليك في التعليم والإدارة. كما أعاد فرض الرقابة على المطبوعات، وألغى العديد من القوانين التي أُقرت في زمن لويس الثامن عشر لضمان التوازن بين السلطات.

ومن أبرز القرارات التي فجّرت الغضب الشعبي قانون “تعويضات النبلاء”، والذي نصّ على دفع تعويضات مالية ضخمة للنبلاء الذين فقدوا ممتلكاتهم خلال الثورة الفرنسية. وقد اعتُبر هذا القانون خطوة لاستعادة النظام الإقطاعي، مما أشعل استياء الفئات الشعبية والبرجوازية على حد سواء.

في عام 1827، حلّ شارل الحرس الوطني، وهو قوة عسكرية شبه مدنية كانت تُعتبر رمزا وطنيا، مما زاد من توتر علاقته مع الشعب والنخبة البورجوازية. كما خاض مواجهة متصاعدة مع البرلمان، ورفض التنازل عن سلطاته المطلقة، في ظل تصاعد التيار الليبرالي المطالب بحكومة تمثيلية ودستور واضح.

الحملة الاستعمارية على الجزائر

في عام 1830، شن شارل العاشر حملة عسكرية على الجزائر، والتي كانت بداية للغزو الفرنسي لهذا البلد الواقع في شمال إفريقيا. جاءت الحملة في سياق محاولة لصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية المتصاعدة، وكان يأمل من خلالها تحقيق نصر عسكري يُعزز من شعبيته. لكن هذه الحملة، رغم بداياتها الناجحة عسكرياً، لم تمنع اندلاع الغضب الشعبي في الداخل الفرنسي.

ورغم أن الغزو ساهم في إسقاط حكم الدايات في الجزائر، إلا أن ثمن الحملة من حيث التكاليف البشرية والمالية فاق التوقعات، كما أن الرأي العام الفرنسي لم يرحب بالتوسع الاستعماري، خاصة في وقت كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة.

المراسيم الأربعة الكارثية

بلغ التوتر ذروته في يوليو 1830، عندما أصدر شارل العاشر ما عُرف بـ “المراسيم الأربعة” (Ordonnances de Saint-Cloud)، وهي مراسيم ملكية تهدف إلى إحكام قبضته على الحكم من خلال:

1. حل البرلمان المنتخب حديثاً.

2. إعادة فرض الرقابة المشددة على الصحافة.

3. تغيير نظام الانتخابات لتقليل تمثيل البرجوازية.

4. تحديد موعد لانتخابات جديدة تحت قوانين تقييدية.

أثارت هذه المراسيم ثورة شعبية عارمة في باريس، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع، وقاموا ببناء الحواجز والاشتباك مع قوات الجيش. عُرفت هذه الأحداث بـ ثورة يوليو 1830 أو الثورة الثانية، والتي انتهت خلال ثلاثة أيام فقط بإسقاط حكم شارل العاشر.

التنازل عن العرش والمنفى النهائي

في 2 أغسطس 1830، وتحت ضغط الأحداث، تنازل شارل العاشر عن العرش لصالح حفيده “هنري دوق بوردو”، لكن البرلمان تجاهل هذه الخطوة واختار تنصيب لويس فيليب من أسرة أورليانز كملك دستوري، في تحول تاريخي أنهى الحكم الملكي المطلق في فرنسا.

غادر شارل العاشر فرنسا مجدداً إلى المنفى، وانتقل إلى المملكة المتحدة ثم إلى النمسا، حيث استقر في مدينة غوريتسيا (التي تقع اليوم في سلوفينيا). عاش سنواته الأخيرة في عزلة، وتوفي في 6 نوفمبر 1836 عن عمر ناهز 79 عاماً.

تقييم تاريخي لعهد شارل العاشر

يُعد عهد شارل العاشر مرحلة مفصلية في التاريخ الفرنسي، إذ شهد الصراع النهائي بين النظام الملكي التقليدي والتيارات الليبرالية الحديثة. عُرف بأنه ملك متشبث بالمطلقات، غير قادر على استيعاب المتغيرات الاجتماعية والسياسية، مما عجّل بسقوط حكمه في ثورة شعبية حاسمة.

وقد عاب المؤرخون على شارل العاشر افتقاده للمرونة السياسية، وفشله في التفاوض مع القوى الصاعدة في المجتمع الفرنسي، خصوصاً الطبقة البرجوازية التي أصبحت تمثل القوة الحقيقية اقتصادياً وسياسياً. كما انتُقدت سياساته الاقتصادية والاجتماعية التي أعادت إنتاج الفوارق الطبقية وحرمت المواطنين من المكتسبات التي تحققت بعد الثورة الفرنسية.

وفي مقابل ذلك، رأى بعض المحافظين أن سقوط شارل العاشر كان نتيجة مباشرة للتراخي في فرض النظام والهيبة الملكية منذ بداية الاستعادة عام 1814، وأن صلابته السياسية لم تكن إلا محاولة أخيرة لحماية فرنسا من السقوط في الفوضى الثورية مجدداً.

الجدول: أبرز محطات حياة شارل العاشر

الخاتمة

مثل شارل العاشر نهاية مرحلة طويلة من التاريخ الفرنسي التي اتسمت بالحكم الملكي المطلق، وقد عبّر سقوطه عن ولادة عهد جديد قائم على المبادئ الدستورية والتمثيل النيابي. بقيت تجربته تحذيراً تاريخياً من عواقب الجمود السياسي ورفض الإصلاح، في وقت كانت فيه أوروبا بأسرها تشهد تحولات اجتماعية وثقافية غير مسبوقة. إن دراسة شخصية شارل العاشر ليست فقط فصلاً من فصول التاريخ الفرنسي، بل هي أيضاً مرآة لصراعات العصر الحديث بين القديم والجديد، بين السلطة والشعب، وبين المحافظة والتجديد.

المصادر والمراجع:

1. Doyle, William. The Oxford History of the French Revolution. Oxford University Press, 2002.

2. Mansel, Philip. Louis XVIII. John Murray Publishers, 2005.