سد مأرب: أعجوبة اليمن القديمة

سد مأرب: أعجوبة هندسية خالدة في قلب التاريخ العربي

يُعد سد مأرب أحد أعظم الإنجازات الهندسية في التاريخ القديم، وأحد الرموز الحضارية البارزة في الجزيرة العربية. لم يكن مجرد منشأة مائية أو مشروع لتخزين المياه، بل كان رمزاً للنهضة الزراعية والاقتصادية والاجتماعية في مملكة سبأ القديمة، ودليلاً ساطعًا على التقدم العلمي والهندسي الذي وصلت إليه حضارات اليمن القديم قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام. ويُنظر إليه كأحد أقدم السدود الكبرى في العالم، وأحد العوامل الجوهرية التي ساهمت في ازدهار واحدة من أعظم الممالك في جنوب شبه الجزيرة العربية.

يتجاوز الحديث عن سد مأرب نطاق الهندسة المائية، فهو يشكّل حلقة وصل بين التاريخ، والأسطورة، والدين، والجغرافيا، والاقتصاد. ارتبط اسمه في النصوص القديمة بقصة انهياره الشهير، الذي كان من العوامل التي دفعت القبائل اليمنية إلى التفرق والشتات، مما خلّد ذكره في الثقافة العربية وفي القرآن الكريم. هذا المقال يُقدم دراسة شاملة عن سد مأرب، من حيث تاريخه، وبنيته الهندسية، ووظائفه، وأثره على المجتمع اليمني القديم، وتداعيات انهياره، فضلاً عن مشروع إعادة ترميمه الحديث.

الموقع الجغرافي والبيئة الطبيعية

يقع سد مأرب في محافظة مأرب، شرق العاصمة اليمنية صنعاء، عند سفوح سلسلة جبال البلق. وقد تم تشييده في موقع استراتيجي يجمع بين الجبال التي تحيط بوادي “ذنة”، وهو من أكبر وأغزر الأودية في اليمن، والذي يشكل مصدرًا مائيًا دائمًا تقريبًا، نتيجة للسيول الموسمية التي تتدفق من المرتفعات.

الموقع الطبيعي للسد مثالي من الناحية الجيولوجية، حيث أن الوادي يتخذ شكل ممر ضيق بين جبلين، مما يُسهل عملية إقامة السد وتخزين المياه خلفه، وتوزيعها لاحقًا عبر شبكة قنوات مصممة بدقة لتصل إلى الأراضي الزراعية المحيطة. كما أن التربة في تلك المنطقة خصبة جدًا، ما جعلها من أخصب مناطق اليمن وأكثرها إنتاجًا زراعيًا في العصور القديمة.

النشأة والتاريخ القديم

يرجّح المؤرخون أن بداية تشييد سد مأرب تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، وتحديدًا إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أي ما يقارب 2800 عام. وقد أشارت النقوش السبئية القديمة إلى أن أول من بدأ العمل في السد هم ملوك مملكة سبأ، وخاصة الملك “سمه علي ينف” الذي يُعتبر من أوائل الملوك الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذا المشروع.

لكن السد لم يكن مشروعًا مكتملاً دفعة واحدة، بل خضع لسلسلة من التطويرات والتوسيعات والصيانة المستمرة عبر قرون من الزمن. ومن أبرز الملوك الذين ساهموا في أعمال الترميم والتحديث الملك “شرحبيل يعفر” والملك “كرب إل وتر”، وغيرهم من ملوك حمير الذين ورثوا إرث سبأ العظيم.

البنية الهندسية للسد

السد القديم كان عبارة عن سد ركامي من الحجارة والطين، يبلغ طوله حوالي 620 مترًا، وارتفاعه حوالي 16 مترًا، وكانت سعته التخزينية تُقدّر بمئات الملايين من الأمتار المكعبة من المياه. وقد تميز بوجود نظام تصريف دقيق، يتضمن بوابتين رئيسيتين لضبط تدفق المياه، بالإضافة إلى قناتين جانبيتين لتوزيع المياه على شبكتين من السواقي الممتدة إلى الأراضي الزراعية.

تمتد هذه الشبكة إلى وادي عبيدة شرقاً ووادي جفن غرباً، مما مكّن من ريّ مساحات زراعية شاسعة من الأراضي. وتشير الدراسات الأثرية إلى أن عدد القنوات والسواقي بلغ أكثر من 100 قناة فرعية، بعضها محفور في الصخور بدقة متناهية، ما يدل على تقدم مذهل في علم الهيدرولوجيا في ذلك العصر.

كما تم استخدام مواد بناء محلية ومثبتات عضوية مميزة للحفاظ على صلابة البنية لأطول فترة ممكنة. وقد زُوّد السد بسدود فرعية ومصدات للسيول للتحكم في ضغط المياه ومنع التآكل أو الانهيار.

الدور الاقتصادي والاجتماعي

كان لسد مأرب دور محوري في النهضة الزراعية التي عاشتها مملكة سبأ. فقد حوّل السد المنطقة من بيئة شبه صحراوية إلى واحة خضراء زاخرة بالحقول والمزارع والبساتين، تنتج مختلف المحاصيل مثل القمح والشعير والذرة والفواكه والنخيل، فضلاً عن الأشجار العطرية التي كانت تُستخدم في التجارة مع الهند وبلاد الرافدين.

كما ساهم السد في ترسيخ الاستقرار السكاني، من خلال دعم الزراعة المستدامة، مما أدى إلى ازدهار مراكز حضرية نشأت حول مصادر المياه. وتحولت مأرب إلى عاصمة تجارية وثقافية مزدهرة، وجذبت القوافل التجارية بفضل موقعها في منتصف طريق البخور، الذي كان يربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها وبلاد الشام ومصر.

وكان لهذا النشاط الاقتصادي انعكاسات اجتماعية واضحة، تمثّلت في تطور أنماط الحياة، ونشوء تقسيم للعمل، وظهور طبقات اجتماعية مهنية، وازدهار الصناعات الحرفية المرتبطة بالزراعة والنقل والتخزين والتجارة.

الأهمية الدينية والثقافية

لم يكن سد مأرب مجرد مشروع مائي أو اقتصادي، بل ارتبط في الوعي الديني والثقافي لشعوب جنوب الجزيرة بمعاني الخصوبة والبركة. فقد عُدّ السد “هبة إلهية”، وربطت الطقوس الدينية لسبأ بموعد الفيضان السنوي وتنظيم الري.

ويُذكر السد أيضًا في القرآن الكريم في سورة سبأ، حيث ورد قوله تعالى:

“لقد كان لسبإ في مسكنهم آيةٌ جنتان عن يمينٍ وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل” [سبأ: 15-16]

ويُفهم من هذه الآيات أن انهيار السد كان عقوبة إلهية نتيجة الكفر والتجبر، وهو ما خلّد قصته في الذاكرة العربية والإسلامية، وربطها بمعاني الهلاك والفناء بعد الازدهار.

انهيار السد وتداعياته

رغم ما شهده السد من صيانة وترميم على مرّ القرون، إلا أنه انهار في النهاية نتيجة عوامل طبيعية مثل السيول العارمة، وعدم القدرة على احتوائها مع تقادم العمر الهندسي للسد. يرجع تاريخ الانهيار الكارثي إلى القرن السادس الميلادي، في حدود عام 570 م، وهو الحدث الذي مثّل نقطة تحول كبيرة في تاريخ اليمن القديم.

أدى انهيار السد إلى كارثة بيئية وزراعية وإنسانية، حيث جفّت الأراضي، وتدمّرت شبكات الري، وانهارت الحياة الزراعية، واضطر السكان إلى الهجرة. وهو ما يُعرف في التراث العربي بـ”شتات القبائل اليمنية”، إذ تفرقت قبائل عديدة نحو الشمال، ومنها: غسان، الأوس، الخزرج، لخم، كندة، وغيرهم، ما كان له أثر بالغ في تغيير الخريطة السكانية والثقافية لشبه الجزيرة العربية.

إعادة اكتشاف السد ودراسته الأثرية

في العصر الحديث، بدأت البعثات الأثرية العربية والأجنبية بدراسة سد مأرب منذ أوائل القرن العشرين، وخاصة بعد أن أثار انتباه المستشرقين والمؤرخين بسبب ذكره في القرآن والنقوش القديمة. وقد أجريت حفريات ودراسات جيولوجية وهيدرولوجية لتحديد مساره وبنيته وأسباب انهياره.

أثبتت هذه الدراسات مدى الدقة التي تحلى بها مهندسو سبأ، والقدرة الفائقة في توجيه المياه والتحكم بها، رغم ضعف الإمكانيات التقنية المتاحة آنذاك، ما جعله أيقونة للهندسة القديمة في الجزيرة العربية.

مشروع الترميم الحديث

في ثمانينيات القرن العشرين، وتحديدًا عام 1986، تم تدشين مشروع سد مأرب الجديد، بمبادرة ودعم مالي من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي كان يؤمن بأهمية إحياء التراث العربي والحفاظ على مقدراته.

يقع السد الجديد على بعد كيلومترين تقريبًا من السد القديم، وتم بناؤه بتقنيات حديثة تضمن الأمان والاستدامة، ويبلغ ارتفاعه 38 مترًا، وطوله أكثر من 760 مترًا، بسعة تخزينية تصل إلى 400 مليون متر مكعب. ويُعد الآن من أكبر مشاريع المياه في اليمن، ويغذّي الأراضي الزراعية في مأرب والمناطق المجاورة.

أهمية سد مأرب في الدراسات الحديثة

يشكّل سد مأرب موضوعًا متكررًا في الدراسات الأكاديمية المهتمة بالهندسة القديمة، وعلم الآثار، والمناخ، والهيدرولوجيا، والأنثروبولوجيا، وحتى السياسة. فقد أصبح رمزًا للترابط بين المعرفة البيئية والتخطيط المجتمعي، وبين الحضارة والاستدامة.

ويُدرّس في مناهج بعض الجامعات العربية والعالمية كنموذج على البنية التحتية القديمة في المجتمعات ما قبل الصناعية، ويُستشهد به في المؤتمرات المتعلقة بإدارة الموارد المائية، وحوكمة المشروعات الكبرى، والوقاية من كوارث السيول والفيضانات.

جدول: مقارنة بين سد مأرب القديم والجديد

المصادر

• عبد الرحمن عبد الكريم، الهندسة الهيدرولوجية في حضارات جنوب الجزيرة العربية القديمة، دار الفكر العربي، 2010.

• جوفاني غارزولي، اليمن القديم وسد مأرب: دراسات أثرية وهيدرولوجية، دار الساقي، 2004.