سبب نزول سورة عبس
تعد سورة عبس واحدة من السور المكية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وهي السورة رقم 80 في ترتيب القرآن الكريم. يتكون السورة من 42 آية، وهي سورة قصيرة نسبياً، إلا أنها تحمل في طياتها العديد من المعاني والدروس المهمة التي تُعنى بتوجيهات من الله تعالى حول الأخلاق، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومراعاة حقوق الآخرين، في إطار مواقف اجتماعية تتعلق بتفاعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأشخاص المختلفين في المجتمع.
سورة عبس تبدأ بالآية التي يظهر فيها توجيه رباني مباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على موقف له مع أحد الصحابة الكرام الذي كان أعمى، وتُعد هذه السورة واحدة من السور التي تحمل بين آياتها الكثير من الدروس التربوية والأخلاقية التي تعكس معاني العدل والرحمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم في تعامله مع الآخرين، سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء، أو من ذوي الحاجات الخاصة.
1. النزول المباشر لسورة عبس
إن سبب نزول سورة عبس يتصل بموقف حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد الصحابة الكرام، وهو الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم، الذي كان أعمى. في ذلك الموقف، كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولًا بمحادثة مع بعض كبار قريش في مكة، الذين كانوا من زعماء الكفر، مثل أبي جهل وأبي سفيان. في تلك اللحظة، اقترب عبد الله بن أم مكتوم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يتعلم أكثر عن دين الله تعالى ويطلب منه التوجيه.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في بعض الروايات، لم يُعر عبد الله بن أم مكتوم اهتمامًا كبيرًا في تلك اللحظة، وعبس في وجهه بشكل غير مقصود لأنه كان يعتقد أن الوقت غير مناسب لذلك، خاصة في ظل محاولة التأثير على زعماء قريش الذين كانوا في موقف عدائي تجاه الدعوة الإسلامية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يركز على هؤلاء الزعماء لعلهم يسلمون، فكانت هذه المحادثة أولوية بالنسبة له.
هنا، يُظهر القرآن الكريم هذا الموقف، ويوبخ النبي صلى الله عليه وسلم، في تنبيه له بخصوص ضرورة إظهار الاهتمام بكافة الناس، مهما كانت مكانتهم أو وضعهم الاجتماعي، فالله تعالى يوجهه بأن يسعى لمساعدة كل من يطلب العون، سواء كان شخصًا ذا منصب أو فقيرًا أو عاجزًا.
2. الآيات التي جاءت في السورة
تبدأ السورة بالآية الكريمة:
“عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4)”
هذه الآيات جاءت لانتقاد الموقف الذي اتخذته النبي صلى الله عليه وسلم تجاه عبد الله بن أم مكتوم، إذ عبر القرآن عن أن النبي صلى الله عليه وسلم “عبس” في وجهه وتولى عنه. الله تعالى يُذكِّر النبي بضرورة أن يولي اهتمامًا خاصًا بالأشخاص الذين يسعون للتعلم واتباع الحق، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو حالتهم الشخصية.
ثم تستمر الآيات، في توجيه التحذير لكل من يهمل فئة معينة من الناس ويعطي الأولوية للآخرين بناءً على معايير سطحية مثل المال أو المكانة الاجتماعية:
“أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10)”
3. الدروس المستفادة من سبب نزول السورة
أ. أهمية العناية بالفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة
الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه السورة تركز على ضرورة العناية بكافة شرائح المجتمع، وخاصة الأفراد الذين يعانون من ظروف صعبة أو ضيق في الرزق. عبد الله بن أم مكتوم كان أعمى، لكن هذا لم يمنعه من السعي وراء معرفة دين الله. وهذا يعكس جانبًا من سعي النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق المساواة بين أفراد الأمة الإسلامية دون النظر إلى وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي.
ب. توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للعدل في التعامل
يظهر في السورة أيضًا التأكيد على أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يتعامل مع الناس جميعًا بعدل وتوازن. فالتعليمات الإلهية التي وردت في السورة تُعلمنا أن يُعامل الجميع على قدم المساواة، وألا يكون هناك تفضيل للغني على الفقير أو القوي على الضعيف. كما أن هذه السورة توجه رسالة لجميع المسلمين بأنه لا ينبغي أن يكون هناك تمييز بين الناس بسبب المال أو النفوذ.
ج. أهمية التواصل مع الناس بغض النظر عن وضعهم
من خلال هذه السورة، يتضح أن المسلم يجب أن يتسم بالمرونة والإنصاف في تعامله مع الآخرين، لا أن يولي اهتمامًا خاصًا فقط لأولئك الذين يعتقد أنهم قد يفيدونه في مصلحة خاصة. فالله تعالى يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات بتقدير قيمة كل شخص، وفي تفاعل النبي مع عبد الله بن أم مكتوم، كان التوجيه القرآني يعلم المسلمين أن المساواة تكون في المعاملة والاحترام.
4. حكمة ومغزى العتاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم
العتاب الذي وجهه الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في سورة عبس كان لغاية تعليمية عظيمة. فقد أراد الله تعالى أن يُوجه رسالة ليس فقط للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن للمسلمين أجمعين. فالرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوة المسلمين وأعلمهم بما يجب عليهم فعله. كما أن العتاب جاء كدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصومًا عن الخطأ، بل حتى في أفعاله الصغيرة التي قد تبدو غير ذات تأثير، يكون هناك عتاب إلهي.
5. الدروس التربوية التي يمكن أن نتعلمها
إن سورة عبس ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي درس تربوي يُعلمنا الكثير في التعامل مع الأشخاص في حياتنا اليومية. من بين هذه الدروس:
-
الاستماع بعناية للجميع: لا ينبغي أن نقتصر اهتمامنا على الأشخاص المهمين أو الأغنياء فقط، بل يجب أن نولي اهتمامًا خاصًا بكل شخص يسعى إلى الأفضل.
-
المساواة في التعامل: يجب أن نتحلى بروح العدل والمساواة في تعاملنا مع الآخرين دون أن نفرق بينهم بناءً على أي اعتبارات غير مهنية.
-
تحقيق العدالة الاجتماعية: على المجتمع أن يضمن أن كل فرد فيه يعامل بكرامة واحترام، بغض النظر عن حالته الاجتماعية أو الاقتصادية.
-
الاستفادة من كل فرصة تعلمية: كل شخص يطلب العلم والارشاد في الإسلام ينبغي أن يُستقبل برحابة صدر واهتمام، خصوصًا إذا كان السائل في حاجة إلى توجيه ورفع.
6. خاتمة
لقد علمتنا سورة عبس من خلال السبب الذي نزلت فيه، أن الإسلام يركز على تكافؤ الفرص للناس جميعًا. لا فرق بين الناس في نظر الله تعالى إلا في تقوى الله واتباعه. ومن خلال هذا الموقف، يظهر كيف أن كل فرد في المجتمع له الحق في التوجيه والإرشاد، سواء كان غنيًا أو فقيرًا، قويًا أو ضعيفًا.
