سبب نزول سورة القصص
سورة القصص من السور المكية التي نزلت في المرحلة الحرجة من دعوة النبي محمد ﷺ، وهي مرحلة اشتد فيها الصراع بين التوحيد والشرك، وبين الحق والباطل، وفيها تجلت مظاهر الطغيان القرشي، وتعاظمت تحديات الدعوة الإسلامية الأولى. تحتل السورة رقم 28 في ترتيب المصحف، وتتناول سيرة نبي الله موسى عليه السلام بأسلوب قصصي بديع يعكس عمق العبرة وبلاغة التوجيه، ويظهر التشابه العميق بين أحداث قصة موسى مع فرعون، وأحداث حياة النبي محمد ﷺ مع قريش.
يعد سبب نزول السورة متصلاً بجملة من الأحداث والمتغيرات التي وقعت في مكة آنذاك، وتمثل السورة استجابة ربانية مباشرة لما كان يعانيه النبي وأصحابه من إيذاء وكيد، وتوضح السُبل التي يسلكها الطغاة عادةً في مواجهة الحق، وتؤكد مآلاتهم المحتومة.
السياق الزمني للنزول
نزلت سورة القصص في مكة قبل الهجرة، وقد استغرقت فترة نزولها زمناً طويلاً نسبياً، نظرًا لاحتوائها على آيات طويلة ومعانٍ متعددة الطبقات، وهي توازي في توقيت نزولها المرحلة التي اشتدت فيها المضايقات على المسلمين، وبدأ فيها الإعداد للهجرة النبوية، وهي مرحلة كانت فيها مكة تحت قبضة الاستكبار القرشي.
محور السورة الأساسي
سورة القصص تسرد قصة موسى عليه السلام منذ ولادته وحتى خروجه من مصر ثم بعثته، وتُركّز بشكل خاص على الأحداث التي تُبرز المواجهة بينه وبين فرعون، بما يمثله الأخير من رمز للاستبداد، وتبرز مآلات الظلم، والانتصار الحتمي للحق رغم ضعف أصحابه في الظاهر. وتُشكل هذه القصة في مضمونها توازيًا واضحًا مع الوضع الذي كان يعيشه النبي محمد ﷺ في مكة.
سبب نزول سورة القصص
وردت عدة أسباب لنزول آيات من سورة القصص، وسبب نزول السورة كلها يمكن فهمه من خلال تضافر الروايات والأحداث التاريخية التي صاحبتها، وأهمها ما يلي:
أولاً: تعزية للنبي ﷺ في ما لاقاه من أذى قريش
كان النبي محمد ﷺ في مرحلة عصيبة حين نزلت سورة القصص، فقد توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة رضي الله عنها، واشتد عليه أذى قريش، حتى اضطر إلى الخروج إلى الطائف يطلب النصرة، فقوبل بالإهانة والصد. وفي ظل هذا المناخ المحبط، نزلت السورة لتسري عنه، وتبين له أن الابتلاء سُنة ماضية، وأن الأنبياء قبله تعرضوا لما هو أشد، وعلى رأسهم موسى عليه السلام الذي وُلد في بيت العدو، وتربى فيه، ثم خرج مطرودًا، وعاد لاحقًا منصورًا.
جاءت الآيات الأولى من السورة على النحو التالي:
“طسم، تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون”
(القصص: 1-3)
فالتعبير بـ “نتلو عليك” يدل على أن ما يُحكى في السورة هو لتثبيت قلب النبي ﷺ، وإظهار أن سنن الله لا تتبدل، وأن النهاية للرسل وأتباعهم، ولو بعد حين.
ثانيًا: الرد على تعنّت قريش واستكبارهم
من الأسباب التي تُفهم من بنية السورة أنها جاءت ردًّا على استكبار قريش، وادعاءاتهم بأنهم أولى بالنبوة من محمد ﷺ، لأنهم من أهل السيادة في مكة. فالله تعالى يردّ عليهم من خلال القصة أن النبوة لا تُعطى لمن يملك الجاه، أو السلطة، بل يُؤتيها الله من يشاء.
“وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة”
(القصص: 68)
فهذه الآية نزلت ردًّا على قولهم: “لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم”، أي من مكة أو الطائف، فكان الرد أن الاختيار بيد الله لا بأيدي البشر.
ثالثًا: رد على موقف اليهود من دعوة النبي ﷺ
ورد في كتب التفسير أن بعض اليهود أنكروا على النبي ﷺ أنه يروي قصة موسى، وزعموا أن ما عنده من علم مأخوذ من أساطير الأولين. فأنزل الله عليه هذه القصة بالتفصيل الدقيق، الذي يكشف كذبهم، ويُثبت أنه وحي منزل من عند الله.
يقول تعالى:
“وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، ولكنا كنا مرسلين”
(القصص: 44-45)
فالآية تقرر أن ما جاء به النبي ﷺ ليس نتاجًا بشريًا ولا اقتباسًا، بل هو وحي، وإلا فكيف علم بأسرار قصة موسى وهو لم يكن من أهل مدين، ولم يشهد الأحداث.
رابعًا: تسلية النبي في موضوع الهجرة والاضطهاد
قصة موسى عليه السلام تتضمن تفاصيل عن خروجه من بلده، وتغربه، ثم عودته داعيًا. وهذا يُوازي تمامًا حال النبي محمد ﷺ، الذي كان على وشك مغادرة مكة، بعد أن ضُيق عليه. فالسورة تعده بأن النصر سيكون حليفه، كما نُصر موسى، وأن الظالمين إلى زوال مهما طغوا.
يقول تعالى:
“إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”
(القصص: 85)
وهذه الآية جاءت لتطمين النبي ﷺ بأنه سيرجع إلى مكة منتصرًا، وقد تحقق ذلك بالفعل بعد سنوات من الصبر والجهاد.
بناء السورة وتناسق أسباب النزول
جاءت سورة القصص بأسلوب محكم، تُظهر فيه معاني العبرة والتثبيت من أول آية حتى آخرها، وقد توزعت أسباب النزول التفصيلية على عدد من الآيات، مما أعطى السورة طابعًا متدرجًا في التوجيه والتربية. الجدول التالي يُوضح ارتباط بعض الآيات بأسباب نزولها أو المناسبة التي نزلت فيها:
| رقم الآية | مضمون الآية | المناسبة المرتبطة بالنزول |
|---|---|---|
| 3 | بداية قصة موسى | تعزية للنبي ﷺ وتثبيته |
| 7 | وحي الله لأم موسى | إظهار قدرة الله في حماية أوليائه |
| 38 | قول فرعون: “ما علمت لكم من إله غيري” | توضيح طغيان المستكبرين |
| 68 | “وربك يخلق ما يشاء ويختار” | رد على استكبار قريش واعتراضهم على النبوة |
| 85 | “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد” | وعد بالعودة إلى مكة منتصرًا |
| 88 | ختام السورة بالتوحيد | تأكيد الرسالة المحمدية وخاتميتها |
الدروس المستفادة من سبب نزول السورة
-
أن البلاء سنة ماضية: فكما ابتُلي موسى بطغيان فرعون، ابتُلي محمد ﷺ بطغيان قريش، والحل في التوكل والصبر.
-
أن العاقبة للمتقين: مهما طال ظلم الظالمين، فإن النهاية للحق، وهذه سُنّة ربانية ثابتة.
-
أن الله يختار من يشاء: النبوة والرسالة لا تُعطى وفق الأهواء أو المكانة الاجتماعية.
-
أن الهجرة سبيل للنجاة: كما هاجر موسى من مصر، هاجر النبي ﷺ من مكة، فالهجرة كانت مرحلة في طريق النصر.
خاتمة
إن نزول سورة القصص لم يكن مجرد تسلية للنبي ﷺ، بل كان بمثابة خريطة طريق ترشد المؤمنين إلى كيفية التعامل مع الاستضعاف، والطغيان، والغرباء الذين يعادون الحق. لقد نسجت السورة في آياتها المتعددة أسبابًا متنوعة للنزول، جاءت جميعها لتؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الله لا يضيع أجر من آمن به واهتدى.
المصادر:
-
تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن
-
تفسير ابن كثير، تفسير القرآن العظيم
