سبب عدم ذكر البسملة في سورة التوبة
تعدُّ سورة التوبة من السور المكية والمدنية الهامة في القرآن الكريم، والتي تحمل الكثير من المعاني والدروس والمواقف التاريخية التي تعكس أحكامًا تشريعية وأخلاقية في حياة المسلمين. ولكن أحد المواضيع التي أثارت تساؤلات كثيرة بين العلماء والمفسرين هو عدم ذكر البسملة في بداية هذه السورة، حيث تعد البسملة من الأمور الثابتة في بداية معظم سور القرآن الكريم، إلا أن سورة التوبة تأتي شاذة في هذا السياق.
سورة التوبة، والتي تُعدّ السورة رقم 9 في ترتيب المصحف الشريف، كانت نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وتضمنت العديد من الأحكام الخاصة بالجهاد، وحروب الردة، وقضايا التوبة، والعلاقات مع غير المسلمين من القبائل العربية في ذلك الوقت. إن اختلاف هذه السورة عن غيرها في بدء السورة بالبسملة لا يمكن أن يكون عبثًا أو عارضًا، بل كان له دلالة عميقة ومعنى خاص يستحق التوقف عنده.
1. البسملة في القرآن الكريم: مفهومها وأهميتها
البسملة، التي هي: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، هي آية قرآنية مكونة من ثلاث كلمات تفتتح بها معظم سور القرآن الكريم، باستثناء سورة التوبة وسورة النمل، وتعتبر البسملة من الآيات التي تحمِل معنى عميقًا وتُعبّر عن الاستعانة بالله في جميع الأمور، حيث أن “بِسْمِ اللَّهِ” تعني طلب بركة الله ورعايته في جميع الأعمال، و”الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” تُعبّر عن صفة الرحمة الواسعة التي يتمتع بها الله تجاه عباده.
تكرار البسملة في معظم السور يعطي انطباعًا بفتح الصفحة على خير وبركة ورحمات إلهية. إلا أن عدم ذكرها في بداية سورة التوبة أثار تساؤلات حول السبب الدقيق وراء هذا الاستثناء، خاصّةً في ظل كون السورة تتعامل مع مسائل شديدة الأهمية فيما يتعلق بالعلاقة مع أهل الحرب والمشركين، والشروط التي فرضها الله على المؤمنين لتوجيههم في التعامل مع هؤلاء.
2. الأسباب التي تجعل سورة التوبة لا تبدأ بالبسملة
العديد من العلماء قد اهتموا بدراسة هذا الاستثناء في سورة التوبة، وقدَّموا تفسيرات متعددة لهذه الظاهرة. يمكن تلخيص أبرز الأسباب التي تم تناولها في النقاط التالية:
2.1. الخشونة في مضمون السورة
تتناول سورة التوبة أحداثًا شديدة الجدية والصلابة، فهي السورة الوحيدة التي تتضمن الكثير من الآيات التي تتحدث عن الجهاد ضد المشركين، وكذلك عن غزوة تبوك، فضلاً عن توجيه النقد الحاد لبعض الصحابة الذين تخلفوا عن الغزو. السورة تكشف عن موقفٍ حاسم تجاه الخيانة والتراجع عن العهود من قبل بعض القبائل المنافقة. وبالتالي، كان يمكن أن يُعتبر من غير المناسب وضع البسملة التي تمثل الرفق والرحمة في مقدمة السورة التي تحمل مثل هذه الرسائل القوية، فالخطاب في السورة يختلف بشكل جوهري عن الخطاب الذي يظهر في السور الأخرى التي تبدأ بالبسملة.
2.2. الابتعاد عن الترغيب والترهيب
في كثير من الأحيان، تحمل السور التي تبدأ بالبسملة طابعًا من الترغيب والتوجيه الإيجابي للمؤمنين، سواء كان ذلك في السياق الأخلاقي أو التشريعي. أما سورة التوبة، فقد احتوت على الكثير من الترهيب والتوجيهات الصارمة ضد المخالفات والانتهاكات التي ارتكبها بعض المؤمنين. إن ترك البسملة في بداية السورة يُعتبر إشارة إلى الجدية والمباشرة في التعامل مع الأمور، دون الحاجة إلى جلب عنصر الرفق والرحمة الذي قد يُحرف معنى السورة. لذلك، كان الاختيار غير المعتاد لعدم ذكر البسملة يهدف إلى توجيه المعنى بقوة وحسم.
2.3. سورة التوبة تتحدث عن التوبة والعقاب
سورة التوبة هي السورة الوحيدة التي تذكر كلمة “توبة” بهذا القدر من التفصيل. تبدأ السورة بالحديث عن نقض العهود مع المشركين الذين عاهدوا المسلمين، فتتوجه الآيات إلى المؤمنين بشكل قاسي للغاية في بعض المواضع، وتوجه إليهم تحذيرات شديدة بخصوص التعامل مع المنافقين والمشركين الذين يخونون العهود. ذكر البسملة كان ليُخفف من حدة هذه الرسائل الصارمة ويُربطها برحمة الله الواسعة التي تتجاوز حدود هذه المواقف، وهو ما قد يتعارض مع طبيعة السورة التي تعكس مرحلة عصيبة في التاريخ الإسلامي.
2.4. الاستثناء في سور القرآن الكريم
من الجلي أن عدم ذكر البسملة في سورة التوبة ليس أمرًا عشوائيًا، بل هو نوع من الاستثناء الذي يحمل معاني دقيقة ضمن السياق القرآني العام. في القرآن الكريم، لا توجد سورة واحدة تبدأ بالبسملة إلا سورة التوبة وسورة النمل (حيث يوجد استثناء آخر في آخر السورة). يمكن فهم هذا على أنه تخصيص للسورة بسبب ما تحويه من طابع خاص ونوعية التشريعات التي تتضمنها. القرآن الكريم في هذه الحالة يُعلِّم المسلم أن هناك مواقف قد تستدعي الحسم في التعامل مع الآخرين دون الحاجة إلى الترغيب المعتاد في البسملة.
3. التفسير التاريخي والاجتماعي للسبب
في عصر نزول سورة التوبة، كان المسلمون قد دخلوا في مرحلة من الصراع العسكري والديني مع العديد من القبائل والمجتمعات. كان من المهم أن تكون الرسالة القرآنية في هذه السورة شديدة الوضوح والقوة في دعوتها للمؤمنين بالحذر من الشرك والمنافقين. لذلك، فإن عدم وجود البسملة في بداية السورة ينسجم مع هذا السياق التاريخي والاجتماعي، حيث كانت الرسائل الواضحة والمباشرة تُعد أكثر أهمية من الترغيب الروحي الذي تصاحبه عادة البسملة.
4. الاجتهادات العلمية في تفسير هذا الاستثناء
كان للعديد من العلماء والمفسرين آراء متعددة حول سبب عدم ذكر البسملة في سورة التوبة، فقد رأى بعضهم أن هذا الاستثناء يعود إلى أن السورة تتعامل مع مسألة التوبة بشكل صريح، وكان يفضل أن لا تبدأ السورة بالرحمة التي تواكب عادة البسملة، بينما رأى آخرون أن ذلك جاء لأن السورة تتحدث عن القتال والجهاد، ولا يليق في تلك اللحظة استخدام لفظ الرحمة في مقدمة السورة. كما أشار بعض العلماء إلى أن هذا يُعتبر أسلوبًا بلاغيًا قرآنيًا قصد منه تحفيز المسلم على التعامل مع هذه القضايا بجدية، بعيدًا عن أي عاطفة قد تطرأ من خلال الرأفة والرحمة.
5. الخلاصة
إن عدم ذكر البسملة في بداية سورة التوبة يمثل نقطة فارقة في تنظيم القرآن الكريم. وهذا الاستثناء جاء وفقًا لسياق السورة، حيث تعكس السورة طابعًا من الحسم والجديّة في التعامل مع قضايا هامة تخص الجهاد، المنافقين، وعلاقات المسلمين مع غيرهم. كانت السورة بحاجة إلى مسار خطابي قوي يتجاوز الترغيب والرفق، مما جعل حذف البسملة يتناغم مع السياق العام للسورة.
إذن، لا يعد استثناء البسملة في سورة التوبة أمرًا عارضًا، بل هو جزء من النظام البلاغي والتنظيم القرآني الذي يتوافق مع طبيعة السورة وموضوعاتها الجادة والقتالية.
