لماذا نُرعب أنفسنا؟ أفلام الرعب واللاوعي
إن الإنسان بطبيعته كائن معقّد، مدفوع بالفضول، ومفتون بما يثير الحيرة والرعب في آنٍ معًا. ولهذا، لم يكن مستغربًا أن تحتل أفلام الرعب مكانة ثابتة في الثقافة الإنسانية منذ بداية صناعة السينما، بل حتى قبلها في الحكايات والأساطير والطقوس الشعبية. ورغم ما تسببه من توتر وقلق وخوف، فإن جماهيرًا واسعة لا تتوقف عن متابعة هذا النوع من الأعمال الفنية، بل وتبحث عنه بشغف. والسؤال الذي يفرض نفسه في السياق العلمي والنفسي هو: ما الذي يجعلنا نلجأ بإرادتنا الكاملة إلى استهلاك المحتوى الذي يُرعبنا، ويضعنا تحت تأثير المشاعر السلبية؟
إن الإجابة تكمن في عمق النفس البشرية، في أغوار اللاوعي، وفي الآليات النفسية والعصبية التي تحكم علاقتنا بالخوف، وتتحكم في كيفية إدراكنا له والتفاعل معه. أفلام الرعب ليست مجرد تسلية عابرة، بل هي انعكاس لاحتياجات نفسية، ثقافية، واجتماعية معقّدة، تتداخل فيها مكونات اللاوعي الجمعي، وغرائز البقاء، وآليات الدفاع النفسي.
الخوف: غريزة البقاء
إن الشعور بالخوف ليس حالة مرضية كما يعتقد البعض، بل هو استجابة بيولوجية غريزية تهدف إلى حماية الكائن الحي من الأخطار. الدماغ البشري مصمم ليستجيب بسرعة لمحفزات الخطر، حيث تُطلق اللوزة الدماغية (amygdala) إشارات تحفز الجسم على إفراز هرمونات مثل الأدرينالين والكورتيزول، مما يؤدي إلى رفع معدل ضربات القلب، وزيادة التركيز، واستعداد العضلات للهروب أو المواجهة. هذه الاستجابة التطورية كانت ضرورية في العصور القديمة لحماية الإنسان من الحيوانات المفترسة والكوارث الطبيعية.
أفلام الرعب تستغل هذه الآلية البيولوجية وتحاكيها دون وجود خطر حقيقي. نحن ندخل إلى السينما أو نشاهد الفيلم في منازلنا ونحن نعلم مسبقًا أن ما سنراه ليس واقعيًا، ولكن الدماغ يتفاعل مع المشاهد وكأنها حقيقية، مما يتيح للإنسان عيش تجربة “الخوف الآمن”. وهنا يكمن التناقض الجوهري الذي يثير اهتمام علماء النفس: كيف يمكن للدماغ أن يعيش تجربة محفوفة بالخطر دون أن يشعر بها كتهديد حقيقي؟ هذا ما يجعل الرعب ممتعًا، لأنه يُحدث حالة من الإثارة الشديدة دون وجود أذى فعلي.
أفلام الرعب واللاوعي الجمعي
من منظور التحليل النفسي، وتحديدًا في سياق نظريات كارل يونغ، فإن الرعب لا يتعلق فقط بالخوف الفسيولوجي، بل يتصل بمكونات اللاوعي الجمعي التي يشترك فيها البشر جميعًا، مثل صور الوحوش، الأشباح، الموت، الظلام، والعنف. هذه العناصر تتكرر في القصص والأساطير منذ آلاف السنين، وهي ليست مجرد خيالات، بل رموز تمثل الصراعات الداخلية التي يعاني منها الإنسان في حياته النفسية.
إن أفلام الرعب تعبّر عن هذه الصراعات من خلال تجسيد “الظل” كما وصفه يونغ، أي الجزء المكبوت من النفس الذي يحتوي على الرغبات والغرائز والأفكار التي نرفض الاعتراف بها. وعندما نشاهد فيلمًا عن قاتل متسلسل أو شيطان أو مخلوق غريب، فإننا في الحقيقة نواجه صورة من صور الظل في داخلنا، ونستمتع بهذا التفاعل مع مناطق خفية من وعينا.
الرعب يفتح لنا نافذة على عالم مكبوت من المشاعر. إنه يسمح لنا بمواجهة القلق، والتوتر، والموت، والفقدان، والانفصال، دون أن نعيشها بشكل فعلي. وهذا ما يفسر السبب في أن بعض الأشخاص يجدون الراحة بعد مشاهدة فيلم مرعب، إذ يشعرون بأنهم “نظّفوا” أنفسهم نفسيًا، كما لو أنهم خاضوا تجربة تطهيرية (catharsis) شبيهة بالطقوس القديمة التي كانت تحاكي الموت والبعث لتطهير الروح.
التلذذ بالخوف: التفسير السلوكي العصبي
من وجهة نظر علم الأعصاب، فإن مشاهدة أفلام الرعب تؤدي إلى تفعيل نظام المكافأة في الدماغ، وخصوصًا عندما يتزامن الخوف مع الشعور بالسيطرة. عندما يشاهد الإنسان فيلم رعب ويشعر بأنه قادر على تحمّل التوتر دون أن يغلق عينيه أو يهرب، فإن هذا الشعور يمنحه نوعًا من القوة الذاتية والانتصار الشخصي. وبالتالي، ترتبط تجربة الخوف بإفراز الدوبامين، وهو نفس الهرمون المرتبط بالمتعة والمكافأة.
علاوة على ذلك، فإن استهلاك الرعب يضع الجسم في حالة تأهب، مما يساهم في تنشيط الحواس، وزيادة التركيز، وتحفيز الوظائف المعرفية. هذا التفاعل البيولوجي يجعل بعض الأشخاص مدمنين على هذا النوع من الإثارة النفسية، كما هو الحال مع الألعاب الخطيرة، أو رياضات المغامرة، أو ركوب الأفعوانية في الملاهي.
الجدوى الاجتماعية والثقافية للرعب
الرعب لا يؤدي فقط إلى استجابات فردية، بل يلعب دورًا اجتماعيًا وثقافيًا بالغ الأهمية. من خلال أفلام الرعب، يتم التعبير عن مخاوف العصر، والأزمات السياسية، والتحولات القيمية في المجتمعات. في الستينات، ظهرت أفلام الزومبي في الولايات المتحدة بالتزامن مع الحرب الباردة، كرمز لخوف الجماهير من فقدان السيطرة وانتشار الفوضى. وفي الألفية الجديدة، نجد أن أفلام الرعب النفسية تعكس قلق الفرد المعاصر من العزلة، والتكنولوجيا، وفقدان الهوية.
الرعب يخلق مساحة رمزية تسمح لنا بفهم أنفسنا ومجتمعاتنا. إنه ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو أداة فنية ونفسية تحاكي تحولات العقل الجمعي. وعندما يجتمع الناس في صالة سينما لمشاهدة فيلم مرعب، فإنهم يشتركون في تجربة جماعية موحّدة، تخلق بينهم نوعًا من التلاحم الوجداني حتى لو كانوا لا يعرفون بعضهم.
الفئات التي تستهلك الرعب
تشير الدراسات النفسية إلى أن الفئات العمرية الأصغر، وخاصة المراهقين والشباب، هم الأكثر ميلاً لاستهلاك أفلام الرعب. هذا الارتباط يُفسَّر بكون هذه المرحلة العمرية تتسم بالفضول، وتجريب المشاعر الجديدة، والرغبة في اختبار الحدود. المراهق يجد في أفلام الرعب وسيلة للتعبير عن تمرّده الداخلي، أو لاختبار قوته النفسية في مواجهة المجهول.
كما تُظهر الإحصائيات أن النساء يشاهدن أفلام الرعب بنسبة لا تقل عن الرجال، على عكس ما تفترضه الصور النمطية. وهناك من يرى أن هذا يعود إلى أن المرأة تميل إلى استكشاف العواطف بشكل أعمق، والرعب يمنحها فرصة لاختبار مشاعر الخوف، والحماية، والنجاة، في بيئة متحكَّم بها.
العلاقة بين الرعب والقلق النفسي
رغم أن البعض يرى في الرعب وسيلة للتسلية، فإن الباحثين في علم النفس العيادي يرون أن هناك علاقة معقدة بين الميل لمشاهدة أفلام الرعب ودرجة القلق التي يعاني منها الفرد. فالأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق أو الصدمات النفسية قد يتفاعلون مع أفلام الرعب بطريقة مغايرة، وقد يجدون فيها إعادة تفعيل للخبرات المؤلمة.
وفي المقابل، فإن بعض النظريات ترى أن مواجهة الخوف من خلال الرعب يمكن أن يكون شكلًا من أشكال العلاج السلوكي المعرفي، إذ يتعلّم الشخص السيطرة على مشاعره في بيئة وهمية، مما يساعده على التحكم في ردود فعله في الحياة الواقعية. هذه الفرضية استخدمها بعض المعالجين النفسيين لتفسير ظاهرة الانجذاب إلى الرعب رغم كل ما يسببه من توتر.
الرعب في العصر الرقمي
مع تطور التكنولوجيا الرقمية، لم تعد أفلام الرعب حكرًا على السينما، بل انتشرت في الألعاب الإلكترونية، ومسلسلات الإنترنت، و”بودكاست” الجرائم الحقيقية، وحتى في محتوى مواقع التواصل الاجتماعي. أصبحت تجربة الرعب أكثر تفاعلية، وأكثر واقعية، وهو ما يضاعف من التأثيرات النفسية الناتجة عنها.
كما أن استخدام تقنيات الواقع الافتراضي (VR) في بعض الأفلام والألعاب المرعبة فتح آفاقًا جديدة لتجربة الرعب، حيث يصبح المشاهد جزءًا من الحدث، وتُلغى المسافة بينه وبين ما يراه. وهذا يطرح أسئلة عميقة حول قدرة الدماغ على التمييز بين الوهم والواقع، وحول آثار هذه التجربة على المدى الطويل.
الخوف كأداة للتنقية النفسية
في الثقافات القديمة، كان الرعب يُستخدم ضمن الطقوس الدينية والاجتماعية كوسيلة للتطهير الروحي، أو لمساعدة الأفراد على تجاوز مرحلة ما في حياتهم. والآن، بعد آلاف السنين، ما زال الإنسان يلجأ إلى الرعب، ولكن في صيغة فنية ومعاصرة، لنفس الغرض: إعادة الاتصال مع ما هو داخلي، خفي، ومخيف. نحن نرعب أنفسنا لأننا نحتاج إلى هذا النوع من المواجهة. لأن الخوف ليس دائمًا عدوًا، بل قد يكون مرآة تكشف لنا من نحن، وما نخافه، وما يمكن أن نتجاوزه.
المراجع:
-
Clover, Carol J. Men, Women, and Chain Saws: Gender in the Modern Horror Film. Princeton University Press, 1992.
-
Barrett, Justin L. Cognitive Science, Religion, and Theology: From Human Minds to Divine Minds. Templeton Press, 2011.
