سبب تسمية سورة التوبة

سبب تسمية سورة التوبة

سورة التوبة من السور المدنية التي نزلت بعد الهجرة، وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم على رسول الله محمد ﷺ، وتحديدًا في السنة التاسعة للهجرة، وهي سنة عُرِفت في كتب السيرة باسم “عام الوفود”، وواكبت أحداثًا محورية في التاريخ الإسلامي، منها غزوة تبوك، وتبرؤ النبي ﷺ والمؤمنين من عهود المشركين. وتُعدّ السورة من أطول السور المدنية، حيث تبلغ آياتها 129 آية، وتُعرف كذلك بأسماء أخرى مثل: “براءة” و”الفاضحة” و”المُبعثرة”، وكل اسم يعكس جانبًا من مضمونها العميق والحاسم.

أولًا: الاسم الأشهر “سورة التوبة”

اشتهرت السورة في المصاحف وكتب التفسير والتاريخ باسم “سورة التوبة”، وهو اسم يحمل دلالة محورية، لما تضمنته السورة من الحديث عن التوبة، سواء من جهة دعوة الله سبحانه لعباده أن يتوبوا، أو من جهة قبول التوبة من طوائف متباينة في النوايا والسلوكيات. تحدثت السورة عن توبة:

• الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، والذين أنزل الله فيهم آيات تُتلى إلى يوم الدين.

• أهل الأعذار الذين لم يتمكنوا من الخروج للجهاد بسبب العجز أو المرض.

• الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وجاءوا يطلبون من رسول الله ﷺ الاستغفار لهم.

• الذين أُرجئت توبتهم من المنافقين، وترك أمرهم إلى الله عز وجل.

كل هذه التوجيهات تجعل من موضوع التوبة محورًا جوهريًا في السورة، حيث بسط الله فيها أبواب الرحمة للتائبين، رغم أن السورة كانت في مجملها مليئة بالتحذير والإنذار والوعيد. فكان من الطبيعي أن يُطلق عليها هذا الاسم تعبيرًا عن هذا المضمون التوجيهي الإلهي بالغ الأهمية.

ثانيًا: اسم “براءة” وسبب شيوعه

الاسم الآخر الذي عُرفت به السورة، بل هو الاسم الذي ابتدأت به، هو “براءة”، وقد ورد في أول آية منها:

“بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”

وهذا الاسم يعكس مضمونًا سياسيًا وعقائديًا بالغ الحساسية والخطورة؛ فقد أعلنت السورة القطيعة التامة بين الدولة الإسلامية التي نشأت في المدينة وبين المشركين الذين نقضوا العهود أو قاتلوا المسلمين أو تحالفوا مع أعدائهم. جاءت هذه البراءة تعبيرًا عن استقلال العقيدة وتطهير الصفوف، ورفع يد الحماية التي كانت قائمة بموجب العهود، بعدما أثبتت الوقائع أن كثيرًا من المشركين لا يوفون بعهد ولا يراعون ذمة.

وقد استُخدم اسم “براءة” في كتب المفسرين الأوائل كالطبري والقرطبي وغيرهم، وكانوا يبدؤون تفسير هذه السورة بقولهم: “سورة براءة”، ويُحتمل أن ذلك يعود إلى أنها لم تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، فكان البدء باسم “براءة” من باب التأكيد على افتتاح السورة.

ثالثًا: لماذا لم تبدأ السورة بالبسملة؟

سورة التوبة تُعدّ السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لم تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا الأمر أثار تساؤلاً عند الصحابة وعند من تبعهم. وقد وردت عدة أقوال لتفسير ذلك، منها:

1. قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن البسملة تُستخدم في السياقات التي تدل على الرحمة، بينما سورة التوبة تحمل مضمونًا من الوعيد والتهديد والبراءة، ولذلك لم تبدأ بالبسملة.

2. أنها مكملة لسورة الأنفال: فقد رُوي عن الصحابة أنهم لم يكونوا متأكدين إن كانت سورة التوبة سورة مستقلة أم تتمة للأنفال، فتركوا البسملة بينها وبين الأنفال.

3. دلالة على الحزم والشدة: فالسورة جاءت كإعلان نهائي للحسم مع المنافقين، والمشركين، وأهل النفاق، مما يتناسب مع حدة الخطاب فيها، فغابت البسملة لإظهار هذا الطابع القوي.

رابعًا: الاسم “الفاضحة” ومغزاه

من بين الأسماء التي وردت للسورة أيضًا في كتب الحديث والتفسير هو اسم “الفاضحة”، وقد جاء هذا الاسم في حديث موقوف عن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، حيث قال: “سورة التوبة هي الفاضحة، فما زالت تنزل: ومنهم ومنهم، حتى ظننا أنها لن تُبقي أحدًا”.

وهذا التعبير يشير إلى الطريقة التي كشفت بها السورة أحوال المنافقين، ففضحت مواقفهم، ونفاقهم، وخياناتهم، وتلاعبهم بالدين، بل إنها أفردت جزءًا كبيرًا من آياتها لتفنيد حججهم، وبيان تناقضهم، وتحذير المؤمنين منهم. لذلك، فقد رأى الصحابة أن هذه السورة فضحت المنافقين على رؤوس الأشهاد.

خامسًا: الاسم “المُبعثرة” ودلالته البلاغية

ورد أيضًا في بعض التفاسير القديمة أن من أسماء السورة “المبعثرة”، والمقصود بذلك أنها بعثرت خبايا المنافقين وكشفت الأسرار المدفونة، وأظهرت الحقائق التي كانت مخفية. وهذا الاسم يندرج تحت نفس التصنيف البلاغي الذي تتضمنه “الفاضحة”، وهو الكشف والبيان والوضوح.

فالسورة لم تكتفِ ببيان أحوالهم العامة، بل نزلت بآيات دقيقة تكشف نياتهم، وأفعالهم، ونياتهم المستقبلية، وتُفند أعذارهم الظاهرة، وتبين أن ظاهرهم يخالف باطنهم، وكل ذلك بأسلوب قرآني يجمع بين الحجة القاطعة والبلاغة المؤثرة.

سادسًا: مضمون السورة وعلاقته بأسمائها

عند التأمل في أسماء السورة المختلفة: (التوبة، براءة، الفاضحة، المبعثرة)، نجد أن كل اسم يعبر عن جانب من مضمون السورة المتنوع. فهي ليست فقط سورة “توبة”، بل هي أيضًا إعلان للبراءة، وكشف للمنافقين، وتصفية للحساب مع أهل الشرك والخيانة.

السورة تمثل نقلة نوعية في الخطاب القرآني؛ فبعد فترة من الدعوة والمسالمة، جاء وقت المواجهة السياسية والعقائدية، ووقت التمييز بين الصفوف، والتأسيس لدولة إسلامية واضحة الهوية والمواقف، ولذلك كانت السورة مليئة بالحدّة والوضوح والصراحة.

سابعًا: البعد السياسي والديني لأسماء السورة

سورة التوبة ليست مجرد سورة دينية تدعو إلى التوبة، بل هي وثيقة سياسية وتشريعية ودعوية حاسمة في مسيرة الدولة الإسلامية. لذلك، فإن أسماءها تعبّر أيضًا عن:

• الانتقال من حالة الهدنة إلى الحسم.

• إعادة تعريف العلاقات مع غير المسلمين بناء على السلوك وليس العرق أو النسب.

• فضح النفاق باعتباره خطرًا داخليًا أكبر من العدو الخارجي.

• الدعوة الصريحة إلى تطهير الصف الإسلامي من التردد والتخاذل والخداع.

وبهذا المفهوم، فإن تسمية السورة بـ “التوبة” هو في حقيقته أكثر من مجرد اسم: إنه دعوة للتجديد من الداخل، وتصحيح المسار، وفتح باب العودة إلى الله رغم كل ما سبق من الذنوب والخطايا. في الوقت نفسه، فإن اسم “براءة” يعبّر عن استقلال الكيان الإسلامي، ورفضه لأي شراكة دينية أو سياسية مع من لا يلتزم بالعهد أو يحارب الدين.

المصادر:

1. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن – تفسير سورة التوبة

2. الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن – تفسير سورة التوبة