زواج القاصرات يهدد الأسرة

زواج القاصر.. كيف ستُبنى مؤسسة الزواج؟

يُعد زواج القاصر من القضايا المجتمعية الأكثر إثارة للجدل في المجتمعات التقليدية والمعاصرة على حد سواء، لما ينطوي عليه من أبعاد اجتماعية، ونفسية، وصحية، وقانونية، وثقافية عميقة. في قلب هذه الظاهرة يقبع سؤال جوهري حول إمكانية بناء مؤسسة زوجية سليمة ومستقرة في ظل غياب النضج العقلي والجسدي والعاطفي لدى أحد أطراف العلاقة أو كليهما. فحين يتم الزج بطفل أو طفلة في إطار علاقة يفترض أنها تتطلب أقصى درجات الإدراك والوعي وتحمل المسؤولية، فإن المؤسسة الزوجية تصبح هشة بطبيعتها، وتفتقر إلى الأساس الذي يجعلها قادرة على الاستمرار والتطور.

مفهوم زواج القاصر

زواج القاصر يُقصد به الزواج الذي يُبرم قبل بلوغ أحد الطرفين أو كليهما سن الرشد القانوني الذي يحدده القانون المدني أو الشرعي. ويختلف سن الرشد من دولة لأخرى، غير أن معظم التشريعات العالمية والمنظمات الحقوقية، ومن ضمنها الأمم المتحدة، تعتبر أن أي زواج يتم قبل سن 18 عاماً يُعد زواج قاصرين، ويُصنف ضمن ممارسات العنف ضد الطفولة.

في العديد من المجتمعات التقليدية، ما زال زواج القاصرات يُنظر إليه على أنه وسيلة لضمان الاستقرار الاقتصادي للأسرة أو للحفاظ على “الشرف”، أو نتيجة لمعتقدات اجتماعية راسخة حول دور المرأة وحجم حريتها. لكن ما تغفله هذه المجتمعات هو حجم التداعيات التي يخلّفها هذا الزواج، ليس فقط على الفتاة، بل على البنية الاجتماعية كاملة.

غياب النضج العقلي والعاطفي

الزواج علاقة إنسانية معقدة تتطلب نضجاً كاملاً في التفكير والشعور والسلوك. إن الشخص القاصر، خاصة الفتاة، يكون في مرحلة حرجة من التطور النفسي والعصبي، حيث تتشكل الهوية الذاتية وتنضج القدرات الإدراكية والعاطفية. زواجها في هذه المرحلة يضعها أمام مسؤوليات ضخمة، كالإنجاب وتربية الأطفال، وإدارة بيت، والتعامل مع ضغوطات الحياة الزوجية، وهو ما يفوق قدرتها المعرفية والانفعالية.

التكوين العاطفي غير المكتمل يؤدي إلى ضعف في مهارات التواصل، وعدم القدرة على التعبير عن الحاجات أو ضبط الخلافات بطريقة ناضجة، مما يجعل العلاقة عرضة للتصدع الدائم. وبدلاً من أن تكون مؤسسة الزواج منبعاً للدعم والاستقرار، تتحول إلى بيئة منتجة للاضطرابات النفسية، كالقلق، والاكتئاب، والاضطراب ما بعد الصدمة.

الأضرار الصحية والإنجابية

من أبرز الآثار الجانبية لزواج القاصر ما يرتبط بالصحة الجسدية والإنجابية. الفتيات اللواتي يتزوجن في سن مبكرة يكنّ عرضةً لمضاعفات الحمل والولادة، مثل الولادة المبكرة، والإجهاض المتكرر، وتمزق الرحم، وحدوث فقر دم حاد، نتيجة عدم اكتمال النمو الجسدي. كما أن هذه الفئة أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً، بسبب عدم وعيها بوسائل الحماية، أو نتيجة لتفاوت السن الكبير بينها وبين الزوج، ما يُضعف قدرتها على التفاوض أو رفض العلاقة.

وقد أثبتت الدراسات التي أجريت في العديد من الدول ذات النسب المرتفعة لزواج القاصرات أن معدل وفيات الأمهات في سن الطفولة أعلى بكثير من النساء البالغات، بل وقد يصل في بعض المناطق الريفية إلى أربعة أضعاف المعدل الطبيعي.

التبعية الاقتصادية والاجتماعية

في أغلب حالات زواج القاصرات، تكون الفتاة محرومة من التعليم، وهو ما يجعلها تعتمد اعتماداً كاملاً على الزوج في الجوانب الاقتصادية والمعيشية. هذه التبعية تُفقدها القدرة على اتخاذ القرار أو حماية نفسها من الاستغلال، وتضعف مكانتها داخل الأسرة والمجتمع. الزواج في هذه الحالة لا يُخرجها من دائرة الفقر، بل يعمّق فيه من خلال إنتاج جيل جديد غير متعلم، يعيد إنتاج نفس نمط التهميش والعوز.

والأخطر أن هذه التبعية تؤدي إلى تكريس أنماط العلاقات غير المتوازنة داخل الزواج، حيث يتحول الزوج إلى سلطة مطلقة، والزوجة إلى تابع لا يمتلك أي أدوات للمقاومة أو الرفض، مما يجعل العلاقة أقرب إلى شكل من أشكال العبودية المعاصرة المغلّفة بغطاء قانوني أو ديني.

العنف الأسري كنتاج مباشر

تتعرض القاصرات المتزوجات لنسبة مرتفعة جداً من العنف الأسري، سواء كان لفظياً، أو جسدياً، أو جنسياً. إن هشاشة شخصية الفتاة وصغر سنها، وعدم قدرتها على التعبير أو الدفاع عن نفسها، يجعلها عرضة للإيذاء المتكرر دون حماية قانونية أو اجتماعية. بل إن المجتمعات التي تبيح هذا النوع من الزواج غالباً ما تُحمّل الفتاة مسؤولية العنف الواقع عليها، وتمنعها من طلب المساعدة أو الانفصال، بدعوى أن الطلاق عيب أو أن المرأة يجب أن “تتحمل”.

ويُنتج هذا العنف آثاراً ممتدة، ليس فقط على الضحية، بل على الأبناء أيضاً، إذ يكبر الأطفال في بيئة يسودها العنف والقهر، ما يُعيد إنتاج دوامة العنف عبر الأجيال.

التدمير التدريجي لمفهوم الأسرة

عندما يُبنى الزواج على ضعف، فإن الأسرة الناتجة عنه تكون قابلة للانهيار في أي لحظة. الأسرة التي تقوم على زواج قاصرين غالباً ما تفتقر إلى الحوار، والمودة، والرؤية المشتركة، فتتحول العلاقة الزوجية إلى عبء دائم، يملؤه الغضب والإحباط والخذلان. وفي حالات كثيرة، تؤدي هذه الحالة إلى التفكك الأسري والانفصال، مما يزيد من أعداد الأطفال المحرومين من البيئة الأسرية المستقرة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن زواج القاصر غالباً ما يتضمن زواجاً مبنياً على الفرض أو الإكراه، وهو ما يتعارض تماماً مع مبدأ “الرضا الكامل” الذي يُعد شرطاً جوهرياً في العقد الزوجي السليم. هذا الإكراه ينفي أحد أسس الاستقرار الأسري، ويحول الزواج إلى عقد إذعان، بدلاً من أن يكون شراكة متوازنة بين طرفين ناضجين.

الأبعاد القانونية والحقوقية

في السنوات الأخيرة، شهد العالم تحركاً واسعاً لمناهضة زواج القاصرات، وبرزت قوانين وتشريعات في عدد من الدول تُجرّم هذا الزواج وتضع عقوبات صارمة على من يشارك فيه. غير أن الإشكال الأساسي يظل في ضعف تطبيق القانون، واستمرار الممارسات التقليدية والدينية التي تشرعن الزواج المبكر بحجج ثقافية أو فقهية.

وقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) عدة تقارير تؤكد أن أكثر من 650 مليون فتاة وامرأة حول العالم تزوجن قبل سن 18 عاماً، وأن هذه الظاهرة لا تزال راسخة في بعض المناطق، خصوصاً في جنوب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، والشرق الأوسط، رغم كل الجهود الدولية المبذولة.

التأثير على الاقتصاد والتنمية

تشير الدراسات الاقتصادية إلى أن الدول التي تنتشر فيها ظاهرة زواج القاصرات تعاني من معدلات تنمية أقل، ونسب فقر أعلى، ومستويات تعليم منخفضة. فخروج الفتاة من المدرسة للزواج يضعف من مساهمتها في سوق العمل، ويزيد من عبء الإعالة على الأسرة والدولة. كما أن الإنجاب المبكر والمتكرر يرفع معدلات النمو السكاني بشكل غير متوازن، ما يؤدي إلى ضغوطات كبيرة على الخدمات الصحية والتعليمية.

من جهة أخرى، فإن إعاقة تعليم الفتيات تحد من الابتكار والإبداع، وتحرم المجتمع من نصف طاقته البشرية المنتجة. إن بناء مجتمع منتج ومزدهر يستلزم تمكين جميع أفراده، رجالاً ونساءً، من فرص متكافئة في التعليم، والعمل، والحياة الكريمة، وهو ما يتنافى جذرياً مع ممارسات تزويج القاصرات.

الآثار النفسية الممتدة

تُظهر الأبحاث النفسية أن زواج القاصرات يرتبط بارتفاع معدلات الأمراض النفسية، مثل الاكتئاب، واضطرابات القلق، ونوبات الهلع، وحتى التفكير الانتحاري. ذلك أن الفتاة التي تجد نفسها فجأة في إطار لا يتناسب مع احتياجاتها النفسية، وتُجبر على القيام بأدوار تفوق قدراتها، تفقد الشعور بالأمان الداخلي، وتتطور لديها مشاعر العجز والدونية.

كما أن التغييرات الجذرية في نمط الحياة، بما في ذلك الانفصال المبكر عن الأسرة، وفقدان الأصدقاء، والانقطاع عن الدراسة، تخلق فجوة نفسية كبيرة بين الفتاة وعالمها السابق، دون أن تُمنح فرصة لبناء عالم جديد مستقر. وتستمر هذه الاضطرابات حتى في مراحل لاحقة من العمر، وقد تنعكس على الأبناء الذين ينشأون في بيئة غير مستقرة نفسياً.

محورية التعليم في الوقاية

أحد أبرز الحلول لمواجهة زواج القاصرات يكمن في تعزيز التعليم، وتحديداً تعليم الفتيات، حيث أظهرت الدراسات أن كل سنة إضافية تقضيها الفتاة في التعليم تقلل من احتمال زواجها المبكر بنسبة 6%. كما أن التعليم لا يمنح الفتاة المعرفة فقط، بل يعزز من وعيها بحقوقها، ويقوّي ثقتها بنفسها، ويجعلها قادرة على اتخاذ قرارات تخص حياتها، ومقاومة الضغوط الأسرية والمجتمعية.

لذلك، فإن الاستثمار في التعليم، خصوصاً في المناطق الفقيرة والمعزولة، يجب أن يكون أولوية قصوى، إلى جانب إصلاح السياسات الثقافية والإعلامية، وتوفير فرص اقتصادية بديلة للعائلات التي تلجأ إلى تزويج بناتها لأسباب مادية.

جدول يوضح الفروق الجوهرية بين زواج القاصر والزواج الناضج

الخلاصة

زواج القاصر ليس مجرد عقد قانوني يُبرم بين طرفين، بل هو ممارسة تتضمن خرقاً واضحاً لحقوق الإنسان، وتدميراً مبكراً لطفولة تُسلب قبل أوانها. إنه يقوّض من مفهوم الأسرة، ويُنتج مؤسسات زوجية فارغة من المضمون، مليئة بالتوتر والعجز. فلا يمكن بناء مؤسسة زواج حقيقية على أساس من القصور والنقص، بل لا بد من الوعي، والحرية، والاختيار، والنضج ليكون الزواج مؤسسة حياة، لا مؤسسة قهر.

المراجع:

1. UNICEF. (2020). Child Marriage: Latest trends and future prospects.

2. WHO. (2018). Adolescent pregnancy: Issues in adolescent health and development.