روزاليند فرانكلين: المرأة التي كشفت سر الحياة وطمستها العدسة الذكورية في العلم
في تاريخ العلم الحديث، تُذكر أسماء مثل “جيمس واتسون” و”فرانسيس كريك” عندما يُشار إلى اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (DNA)، وهو الاكتشاف الذي يُعدّ أحد أعظم إنجازات القرن العشرين، والذي مهّد الطريق للثورة الجينية والتكنولوجيا الحيوية وعلم الوراثة الحديث. غير أن القصة الحقيقية لذلك الإنجاز لا يمكن أن تُروى كاملة دون تسليط الضوء على العالِمة البريطانية روزاليند فرانكلين، التي ظلت طويلاً في ظل التاريخ العلمي رغم كونها أحد الأعمدة الرئيسية التي ساهمت في كشف “سر الحياة”.
هذا المقال المطوّل يسعى لتقديم سرد علمي وحياتي دقيق وشامل عن حياة فرانكلين، إنجازاتها، التحديات التي واجهتها، والمكانة التي تستحقها في تاريخ العلم، والتي حُرمت منها طويلًا بسبب التمييز الجندري في الأوساط الأكاديمية والعلمية في منتصف القرن العشرين.
النشأة والتكوين العلمي
ولدت روزاليند إلسي فرانكلين في الخامس والعشرين من يوليو عام 1920 في نوتنغ هيل، غرب لندن، في عائلة يهودية ثرية تؤمن بالتعليم وقيم العمل المجتمعي. والدها، إليس فرانكلين، كان يعمل تاجرًا بنكيًا وناشطًا اجتماعيًا، وقد حرص على تعليم أبنائه تعليمًا متميزًا. أما والدتها، مورييل، فكانت من النساء المثقفات اللواتي شجعن روزاليند على التفكير النقدي والاستقلالية.
أظهرت روزاليند شغفها بالعلوم منذ سن مبكرة. التحقت بمدرسة “سانت بول” للبنات، وهي من المؤسسات النادرة التي كانت توفّر تعليمًا عالي المستوى للطالبات في مجال العلوم والرياضيات في تلك الفترة. ثم تابعت تعليمها العالي في كلية نيونهام بجامعة كامبريدج، حيث درست الكيمياء وأظهرت نبوغًا واضحًا في الفيزياء الجزيئية.
بداية المسار العلمي والبحثي
بعد تخرجها من كامبريدج في عام 1941، حصلت فرانكلين على منحة بحثية للعمل في الجمعية البريطانية لأبحاث الفحم، حيث شاركت في أبحاث متقدمة حول الهياكل المجهرية للفحم باستخدام تقنيات حيود الأشعة السينية. وقد نشرت العديد من الأبحاث المتقدمة التي ساعدت لاحقًا في تطوير فلاتر الغاز والمواد الكربونية المقاومة للحرارة، وكان لتلك الخبرة دور جوهري في إعدادها لأهم أعمالها لاحقًا: دراسة الحمض النووي.
في عام 1947، انتقلت فرانكلين إلى باريس للعمل في مختبر الفيزياء الكيميائية في المعهد الحكومي الفرنسي للأبحاث. هناك، تعلمت واكتسبت مهارات متقدمة في استخدام تقنية حيود الأشعة السينية، وهي الطريقة التي استخدمتها لاحقًا في لندن لتحليل بنية جزيئات الحمض النووي.
روزاليند فرانكلين وDNA: الصورة 51
في عام 1951، عادت فرانكلين إلى لندن لتنضم إلى “كينغز كوليدج” وتعمل ضمن فريق البحث الذي يدرُس تركيب الحمض النووي. كانت هذه المرحلة محورًا مفصليًا في مسيرتها العلمية وفي تاريخ علم الأحياء الجزيئي.
في المختبر، شرعت فرانكلين في إجراء تحاليل دقيقة باستخدام حيود الأشعة السينية على ألياف الحمض النووي. أسلوبها العلمي كان منهجيًا ودقيقًا إلى حد بعيد. ومن خلال مئات الصور، التقطت الصورة الشهيرة “الصورة 51”، التي تُعد من أوضح الصور التي تكشف عن البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي.
تُظهر الصورة 51 نمطًا حيوديًا مميزًا، كان بمثابة المفتاح الذي استخدمه كل من “واتسون” و”كريك” للوصول إلى النموذج الثلاثي الأبعاد للـDNA. ولكن ما لم يُذكر كثيرًا هو أن هذه الصورة وصلت إليهم دون إذن صريح من فرانكلين، حيث أُعطيت لهم من قبل زميلها “موريس ويلكنز”، دون علمها أو موافقتها.
التهميش والإقصاء العلمي
رغم المساهمة الأساسية التي قدمتها فرانكلين من خلال أبحاثها وصورها في الكشف عن الشكل الحلزوني المزدوج للـDNA، لم يتم الاعتراف بها عند نشر نتائج الاكتشاف في مجلة Nature عام 1953. وبدلاً من إدراج اسمها كمشاركة، ذُكرت أبحاثها في ملحق جانبي وكأنها مجرد ملاحظات داعمة.
عندما مُنح جيمس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكنز جائزة نوبل في الطب عام 1962، كانت فرانكلين قد توفيت قبلها بأربع سنوات. وبحسب قوانين الجائزة، لا تُمنح جائزة نوبل بعد الوفاة، ما شكل عقبة إضافية أمام الاعتراف الرسمي بفضلها العلمي.
لكن المعضلة لا تكمن في الجائزة فقط، بل في تهميش اسمها في السرديات العلمية لعقود. ففي كتابه الشهير “اللولب المزدوج”، وصف جيمس واتسون فرانكلين بأنها امرأة صعبة، وتجاهل عمق مساهماتها العلمية. هذه الرواية ظلت سائدة حتى تم تفنيدها لاحقًا من خلال مذكرات فرانكلين ورسائلها الشخصية.
أبحاثها بعد الحمض النووي: الفيروسات
بعد مغادرتها كينغز كوليدج، التحقت فرانكلين بمختبر “بيرنارد لوف” في كلية بيركبيك، وهناك واصلت أبحاثها الرائدة، ولكن هذه المرة في مجال الهياكل الجزيئية للفيروسات، خصوصًا فيروس فسفاء التبغ (TMV). تمكنت من تحديد أن المادة الوراثية للفيروس تقع في مركزه وليس خارجه، وقدمت أول تحليل دقيق لتركيب الفيروسات النباتية، وهو ما وضع حجر الأساس لعلم الفيروسات البنيوي.
الوفاة المبكرة والنهاية المأساوية
في عام 1956، بدأت فرانكلين تعاني من آلام شديدة في بطنها، لتكتشف لاحقًا إصابتها بسرطان المبيض، وهو ما يُعتقد أن تعرضها المستمر للإشعاعات خلال تجاربها قد يكون أحد أسبابه. رغم حالتها الصحية المتدهورة، واصلت فرانكلين أبحاثها إلى آخر لحظة في حياتها.
في أبريل 1958، توفيت روزاليند فرانكلين عن عمرٍ لم يتجاوز 37 عامًا، تاركة خلفها إرثًا علميًا هائلًا لم يُقدّر حق قدره في حياتها.
العدالة المتأخرة والاعتراف المتأخر
على مدار العقود اللاحقة، بدأ الاهتمام المتزايد بإعادة تقييم دور فرانكلين في اكتشاف بنية الحمض النووي. وقد صدرت كتب وسير ذاتية عديدة أعادت الاعتبار لها، من بينها كتاب Brenda Maddox بعنوان Rosalind Franklin: The Dark Lady of DNA، الذي كشف عن السياق الكامل لحياتها وإنجازاتها وتجاهل المؤسسة العلمية لها.
كما تم إطلاق العديد من الجوائز والمختبرات العلمية باسمها، وأُطلقت مهمات فضائية على شرفها، مثل مهمة “روزاليند فرانكلين” التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية إلى كوكب المريخ، ما يمثل إنصافًا رمزيًا لاسمها وعلمها.
التأثير العلمي والرمزي
لم تكن روزاليند فرانكلين مجرد عالمة متميزة، بل أيقونة لصراع المرأة داخل المؤسسة العلمية الذكورية في القرن العشرين. لقد مثّلت مثالًا نادرًا للمرأة التي تحدّت السائد، وفرضت نفسها في مجالات كانت مغلقة أمام النساء. وكان لصبرها العلمي ودقتها في العمل وأسلوبها البحثي الصارم دور جوهري في إحداث نقلة نوعية في علم الوراثة.
كما أن تأثيرها امتد إلى الحركات النسوية العلمية التي نادت بإعادة النظر في مساهمات النساء في العلم، وتسليط الضوء على التهميش الذي عانين منه لعقود، رغم الدور المحوري الذي أدينه في العديد من الاكتشافات الكبرى.
جدول يوضح المقارنة بين مساهمات فرانكلين وواتسون وكريك
| العنصر العلمي | روزاليند فرانكلين | جيمس واتسون وفرانسيس كريك |
|---|---|---|
| تقنية التصوير | حيود الأشعة السينية بدقة عالية | لا |
| الصورة 51 | التقطتها فرانكلين بدقة متناهية | استخدموها دون علمها |
| التفسير الهيكلي الأولي | افترضت وجود حلزون مزدوج | بنوا نموذجًا على أساس صورها |
| النشر في مجلة Nature | نشرت كمقال منفصل دون شراكة في النموذج | المقال الرئيسي للنموذج الثلاثي الأبعاد |
| الاعتراف بالجائزة (نوبل) | لا | حصلوا على نوبل عام 1962 |
| المجال البحثي بعد DNA | الهياكل الفيروسية | لا مساهمات لاحقة بارزة مماثلة |
الخلاصة
إن قصة روزاليند فرانكلين ليست مجرد فصل من فصول تاريخ العلم، بل شهادة على التحديات الجندرية والمؤسسية التي واجهتها النساء في بيئات بحثية احتكرها الرجال لعقود. لقد شكّلت حجر الأساس لفهمنا للوراثة الجزيئية، وأسهمت بشكل مباشر في إطلاق عصر الجينوم الذي نعيشه اليوم. وعلى الرغم من أنها لم تنل التقدير في حياتها، إلا أن إرثها العلمي والرمزي يزداد إشعاعًا مع مرور الوقت، مما يجعل اسمها مرادفًا لـ “العدالة المتأخرة في العلم”.
المراجع:
-
Maddox, Brenda. Rosalind Franklin: The Dark Lady of DNA. HarperCollins, 2002.
-
Watson, James D. The Double Helix: A Personal Account of the Discovery of the Structure of DNA. Scribner, 1968.
