من الذكاء أن تتغابى أحياناً

في عالمٍ تتقاطع فيه الأفكار، وتتزاحم فيه المصالح، وتتشابك فيه العلاقات، قد لا يكون الذكاء دوماً في إظهار الفطنة، ولا الحنكة في الاستعراض المستمر لقدرات التحليل والفهم السريع، بل قد يكمن الذكاء الحقيقي أحياناً في فن التغابي، ذاك السلوك الذي يبدو ظاهرياً على أنه تظاهر بالغباء أو تجاهل لبعض الحقائق، لكنه في جوهره يحمل أعلى درجات الحكمة الاجتماعية والمرونة النفسية. التغابي ليس ضعفاً ولا تواطؤاً، بل استراتيجية قائمة على التقدير الدقيق لما يستحق الانتباه وما لا يستحق، لما يُقال ويُسمع ويُرد عليه، ولما يُترك عمداً دون تعليق.

التغابي كفن اجتماعي

يعد التغابي سلوكاً اجتماعياً متقدماً يعكس فهماً عميقاً لطبيعة النفس البشرية والتفاعلات الاجتماعية. فالتعامل اليومي مع البشر، بمختلف شخصياتهم وأهوائهم، يفرض على الإنسان نوعاً من الذكاء العاطفي والاجتماعي، يتجلى أحياناً في القدرة على التمثيل الواعي بعدم المعرفة أو الفهم لتفادي الصدام، أو تجاوز الإحراج، أو امتصاص الانفعالات السلبية للطرف الآخر. لا يُقصد من التغابي خداع الآخرين، بل هو تجاهل واعٍ ومدروس لتفصيلات قد تفسد العلاقة، أو تعكر صفو الموقف.

في العلاقات الشخصية، يكون التغابي أحياناً بمثابة صمام أمان يقي من التوتر والانهيار. الزوج الذكي قد يتغافل عن زلات زوجته الصغيرة، والزوجة الحكيمة قد تتغابى عن بعض الكلمات العابرة التي لو أمسكت بها لكان لها وقع آخر. الأصدقاء الناجحون في علاقاتهم هم أولئك الذين لا يدققون في كل تصرف، ولا يضخمون كل هفوة، بل يتغافلون بحكمة.

التغابي في بيئة العمل

في البيئات المهنية، يصبح التغابي في أحيان كثيرة ضرورة استراتيجية. الموظف الحصيف لا يفضح أخطاء زميله أمام المدير، حتى وإن كان قادراً على ذلك، لأنه يدرك أن كشف الغطاء قد يؤدي إلى كسر الثقة. المدير الناجح لا يعاقب كل خطأ صغير، بل يتجاهل أحياناً بعض التصرفات ليبني بيئة إيجابية قائمة على التفهم والنمو. الموظف الماهر هو من يختار متى يُظهر علمه ومتى يُظهر جهله المصطنع، فيعرف متى يتدخل ومتى يصمت.

إن بيئة العمل في جوهرها تحوي طيفاً واسعاً من العلاقات المعقدة، والتغابي فيها لا يعني الإهمال أو الاستسلام، بل ضبط التفاعل مع المواقف بوعي عالٍ يوازن بين الأداء المهني والانفعالات الشخصية، ويسهم في خلق مناخ صحي ومستقر.

الفرق بين الغباء والتغابي

قد يخلط البعض بين التغابي والغباء، بينما الحقيقة أن الفرق بينهما كبير وعميق. الغباء هو نقص في الإدراك أو ضعف في الفهم، في حين أن التغابي هو تجاهل إرادي مبني على الوعي الكامل. الغبي لا يعرف أنه غبي، بينما المتغابي يعرف تماماً ما يدور حوله، لكنه يختار الصمت أو عدم التفاعل لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، أو بالحكمة الشخصية، أو بالذكاء العاطفي.

التغابي لا يقوم على الجهل، بل على الإدراك الانتقائي، فهو يعني أن الشخص يعي كل التفاصيل، ويقرأ ما بين السطور، لكنه يختار أن لا يرد أو أن لا يُظهر فهمه في تلك اللحظة. هو مزيج من الصبر، والحنكة، وضبط النفس.

التغابي في الثقافة العربية

في التراث العربي، وردت العديد من القصص والأمثال التي تشيد بفن التغابي، وتحض عليه كوسيلة من وسائل حسن الخلق والعيش المشترك. من ذلك قول الإمام الشافعي:

“إذا سبّني نذلٌ تزايدتُ رفعة

وما العيبُ إلا أن أكونَ مُجيبَه

ولو لم تكنْ نفسي عليَّ عزيزةً

لمكّنتُها من كلِّ نذلٍ تُعيبُه”

فالسكوت عن السفيه ليس ضعفاً، بل رفعة، والتغاضي عن إساءة الحقير لا يعني فقدان الكرامة، بل حفظ للسمو الأخلاقي. كما يُنسب للإمام أحمد بن حنبل قوله: “تسعة أعشار العقل في التغافل”.

وقد ذُكر في أحد كتب الأدب أن من الذكاء أن يتظاهر الإنسان بعدم فهم الإهانة أو التلميح السيء، ليقطع الطريق على المسيء، فلا يمنحه شرف الرد أو الانتصار اللحظي.

سيكولوجية التغابي

من منظور علم النفس، يمكن تفسير التغابي بوصفه سلوكاً نابعاً من الذكاء الانفعالي، الذي يُعد من أهم محددات النجاح الشخصي والاجتماعي. الأشخاص ذوو الذكاء الانفعالي العالي لديهم القدرة على إدارة مشاعرهم، وفهم مشاعر الآخرين، والتحكم بردود أفعالهم بشكل متزن. ومن أهم خصائص هذا النوع من الذكاء:

• التحكم في الانفعالات: حيث لا ينجرف الشخص خلف الغضب أو الغيرة أو الإهانة السريعة.

• القدرة على التعاطف: وفهم دوافع الآخرين حتى وإن صدرت منهم تصرفات غير لائقة.

• الاستجابة المرنة: والتي تتضمن القدرة على التغافل أو التجاهل عندما يكون الرد مضراً أو غير ذي فائدة.

التغابي إذاً هو جزء من الذكاء الانفعالي الذي يحمي النفس من التوتر، ويحافظ على العلاقات، ويُجنب الدخول في صراعات لا طائل منها.

متى يجب أن تتغابى؟

ليس كل موقف يصلح فيه التغابي، فالحكمة تقتضي التمييز بين ما يجب تجاهله وما يجب الرد عليه. التغابي يكون مطلوباً في المواقف التي يتوقع فيها التصعيد، أو التي يكون فيها الرد عديم الفائدة، أو عندما يكون التغافل أفضل للحفاظ على العلاقة.

لكن عندما يتعلق الأمر بالكرامة أو الحقوق الأساسية، فإن التغابي يفقد قيمته ويصبح نوعاً من التنازل غير المقبول. لذا فالاتزان مطلوب، والتغابي يجب أن يُمارس بحكمة، لا بخنوع.

فيما يلي جدول يوضح الفروق الدقيقة بين مواقف تحتاج إلى تغافل وأخرى لا تحتاج:

التغابي كأداة للسلام الداخلي

لا يقتصر التغابي على العلاقات الخارجية، بل هو أيضاً وسيلة لتحقيق السلام الداخلي، والتخلص من التوتر الناتج عن المبالغة في التفكير أو التحليل. كثرة الانتباه للتفاصيل الصغيرة، والتدقيق في نوايا الآخرين، يرهق النفس ويستهلك الطاقات العقلية والعاطفية. التغابي يمنح النفس مساحة للراحة، ويساعد على التركيز على ما هو أهم.

كما أن التغابي يحفظ للإنسان اتزانه، ويمنحه القدرة على الاستمرارية في بيئات سامة دون أن يفقد نفسه. الشخص الذي يتغافل لا يعني أنه غير متأثر، لكنه يختار أن لا يمنح الموقف قيمة أكبر مما يستحق.

التغابي في التربية

في ميدان التربية، يُعتبر التغابي عن بعض تصرفات الأطفال سلوكاً تربوياً فعالاً. فالمعلم أو الوالد الذكي لا يعاقب على كل خطأ، بل يختار معاركه التربوية بعناية. الأطفال يحتاجون إلى هامش من التجريب والخطأ والنمو، والتغابي عن بعض تصرفاتهم يعطيهم هذا الحيز. في ذات الوقت، يُجنب المربي نفسه الدخول في نزاعات لا تنتهي، ويفتح الباب لبناء علاقة قائمة على الثقة والمرونة.

التغابي ووسائل التواصل الاجتماعي

في عالم مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تسود المبالغة والجدل، يصبح التغابي مهارة لا غنى عنها. الرد على كل تعليق سلبي، أو مواجهة كل رأي مخالف، يستهلك الطاقة ويؤدي إلى الإرهاق الرقمي. التغابي في هذا الفضاء لا يعني الانسحاب، بل انتقاء المعارك، وتجاهل التوافه، والتركيز على ما يضيف قيمة حقيقية.

خلاصة تحليلية

إن التغابي ليس مجرد سلوك لحظي، بل هو نهج حياة مبني على الوعي، والإدراك، وضبط النفس. هو وسيلة فعالة لإدارة العلاقات، والمحافظة على الصحة النفسية، وتقليل الاحتكاك غير الضروري. من يتقن التغابي يعيش بهدوء، ويقلل من النزاعات، ويحتفظ بأكبر قدر ممكن من الاحترام، سواء لنفسه أو للآخرين.

هو توازن دقيق بين العلم والصمت، بين الفهم والتجاهل، بين الحق والصبر. التغابي لا يعلّم في المدارس، لكنه من أهم الدروس التي يتقنها الإنسان عبر التجربة والخطأ، وكلما نضج الإنسان أكثر، كلما أدرك أن التغابي ليس ضعفاً بل ذروة الحكمة.

المراجع

1. Goleman, D. (1995). Emotional Intelligence: Why It Can Matter More Than IQ. Bantam Books.

2. الطنطاوي، علي. (1990). ذكريات علي الطنطاوي، دار المنارة.