بدلاً من محاولة العثور على شغفك دع شغفك يعثر عليك
لطالما سمعنا نصيحة قديمة تقول: “ابحث عن شغفك”، وهي دعوة للبحث الدؤوب عن ما يجعلنا نشعر بالحيوية والإلهام. لكن مع مرور الوقت وتراكم التجارب، أصبح من الواضح أن هذه النصيحة قد لا تكون هي الحل الأفضل دائمًا. في كثير من الأحيان، يصبح البحث عن الشغف عبئًا ثقيلًا على كاهلنا، ويثير الشعور بالضياع والارتباك في مساعينا المستمرة لإيجاد ذلك الشيء الذي نعتقد أنه سيمنح حياتنا معنى وهدفًا.
في هذا السياق، تظهر فكرة جديدة تقول: بدلاً من البحث المستمر عن شغفك، دع شغفك هو من يعثر عليك. ولكن كيف يمكن أن يتحقق هذا؟ وما هي المعاني العميقة التي تحملها هذه الفكرة؟ وما الذي يجعلها أكثر ملاءمة للطبيعة الإنسانية المعقدة؟
المفهوم التقليدي للبحث عن الشغف
الشغف هو ذلك الحافز الذي يدفع الشخص إلى السعي وراء أهدافه بشغف وحب. في المجتمع الحديث، أصبح مفهوم الشغف مرتبطًا بالبحث المستمر عن الشيء الذي يجلب لنا السعادة والرضا التام. هذه الرغبة في اكتشاف شغفنا غالبًا ما تكون نتيجة للضغوط الاجتماعية والثقافية التي تدفعنا إلى النجاح والتفوق في المجالات التي نختارها.
منذ نعومة أظافرنا، تُزرع فينا فكرة أن النجاح يكمن في اكتشاف شيء نحبه ونتفوق فيه، سواء كان ذلك في مجال العمل أو الفنون أو الرياضة أو أي مجال آخر. يصبح هذا البحث عن الشغف جزءًا من هويتنا، لكن ماذا يحدث عندما لا نجد هذا الشغف؟ قد يصبح هذا الشعور كعبًا في قدمنا، مما يؤدي إلى القلق والإحباط.
الضغط الاجتماعي والشعور بالضياع
مع تزايد ثقافة “النجاح السريع” و”التميز في كل شيء”، يتزايد الضغط على الأفراد للعثور على شغفهم وتحقيقه. وبالنظر إلى منصات التواصل الاجتماعي، التي تعرض صورًا للأشخاص الذين نجحوا في مجالاتهم المختلفة، يصبح من السهل الوقوع في فخ المقارنة. الناس من حولنا يظهرون وهم مستمتعين بمهنهم أو هواياتهم أو حتى حياتهم العاطفية، مما يجعلنا نعتقد أننا لا نحقق ما ينبغي لنا أن نحققه.
هذه البيئة المتسارعة تضغط على الأشخاص ليتخذوا قرارات سريعة بشأن حياتهم المهنية والشخصية. تبدأ الأسئلة تظهر بشكل متكرر: “ماذا إذا لم أتمكن من العثور على شغفي؟ هل سأظل أعيش حياة غير ذات مغزى؟”. هذه الأفكار تقود البعض إلى البحث المستمر عن الشغف في الأماكن الخاطئة أو حتى في المجالات التي لا تناسبهم، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الخيبة والندم.
التحول إلى مفهوم الشغف الذي يعثر علينا
بدلاً من أن نكون في حالة بحث مستمر، يقترح مفهوم “دع شغفك يعثر عليك” أن نبتعد عن الضغط الداخلي والخارجي ونسمح للأشياء التي تهمنا أن تظهر بشكل طبيعي. هذه الفكرة تدعو إلى التخلي عن السعي المستمر وراء الشغف والإيمان بأن الشغف يأتي عندما نكون في حالة من الهدوء الداخلي والقبول بما نحن عليه في تلك اللحظة. إنها دعوة للتركيز على الحضور في الحياة، بدلاً من الانشغال المستمر بما يمكن أن يكون.
إذا بدأنا بتغيير عدساتنا لرؤية الشغف كشيء ينشأ بشكل طبيعي من تجارب الحياة اليومية، بدلاً من فرضه بالقوة، سنكون أكثر قدرة على احتضان ما نحن عليه الآن. الشغف لا يأتي دائمًا من السعي المستمر لتحقيق النجاح، بل يأتي أحيانًا من اللحظات الصغيرة التي نعيشها بصدق وحضور.
الشغف من خلال التجارب
بدلاً من التفكير في الشغف كهدف بعيد المنال، يمكن النظر إليه كتجربة مستمرة من الاكتشاف. فكل خطوة نخطوها في الحياة تحمل معها فرصًا جديدة للتعلم والنمو. عندما نتوقف عن السعي وراء الشغف كهدف محدد ونبدأ في التفاعل مع الحياة بمرونة واهتمام، يصبح الشغف جزءًا طبيعيًا من كل ما نقوم به.
قد يكون الشغف شيئًا غير متوقع ينبثق من محادثة عابرة، أو من تجربة صغيرة، أو حتى من قضاء وقت مع أشخاص يشاركوننا اهتماماتنا. بدلاً من فرض ضغوط على أنفسنا لتحديد ماذا نحب، فإن الحياة تقدم لنا الدروس والفرص في كل لحظة.
الشغف في الحياة اليومية
أحد الجوانب المهمة في هذا التحول هو إيجاد الشغف في الحياة اليومية. في الماضي، كان الشغف مرتبطًا بمهن مرموقة أو هوايات معينة. اليوم، قد نجد الشغف في أبسط الأشياء مثل الاستمتاع بفنجان قهوة في الصباح، أو مشاهدة فيلم يحفزنا، أو التفاعل مع الأصدقاء والعائلة. الشغف هو القدرة على إيجاد المتعة والمعنى في اللحظات التي قد نعتبرها عابرة.
هذا النوع من الشغف لا يحتاج إلى تصنيف أو تعريف محدد. يمكن أن يكون شعورًا بالسلام الداخلي أو الحماس تجاه شيء بسيط ولكنه ذو تأثير عميق. إن الشغف الذي يعثر علينا هو ذاك الذي يظهر عندما نكون صادقين مع أنفسنا ومرتاحين بما نقوم به في اللحظة الحالية.
كيف نجد هذا النوع من الشغف؟
المفتاح يكمن في السماح لأنفسنا بالتخلي عن البحث المستمر والتوقعات الكبرى. نحن بحاجة إلى أن نتعلم كيف نعيش في اللحظة، وأن نقدر التجارب اليومية، مهما كانت بسيطة. الشغف لا يجب أن يكون طموحًا ضخمًا أو هدفًا معقدًا، بل يمكن أن يكون متجسدًا في الأمور الصغيرة التي تمنحنا الراحة والفرح.
عندما نحرر أنفسنا من فكرة “النجاح الكبير” و”الاكتشاف العظيم”، سنبدأ في ملاحظة الأشياء التي تثير اهتمامنا وتمنحنا السعادة. قد نكتشف أن الشغف كان موجودًا طوال الوقت في الأشياء التي نحبها، ولكننا لم نكن نراها بسبب التركيز على الأهداف الكبيرة.
الختام
بدلاً من الانشغال بالبحث عن شغفنا، يجب أن نتعلم كيفية الاستمتاع بالحياة في كل لحظة. الشغف ليس شيئًا بعيدًا يجب أن نصل إليه، بل هو شيء يتجلى من خلال التجارب التي نعيشها. عندما نسمح لأنفسنا بالاسترخاء والقبول بما هو موجود، سنكتشف أن الشغف يعثر علينا في اللحظات التي كنا نعتقد فيها أنه مفقود.
