شرح خطبة حجة الوداع للرسول صلى الله عليه وسلم
مقدمة
خطبة حجة الوداع التي ألقاها رسول الله محمد ﷺ في حجة الوداع تُعد من أعظم وأشمل الخطب في تاريخ الإنسانية، لما حوته من مبادئ خالدة وقواعد أخلاقية وتشريعية تُشكل أساسًا متينًا لبناء المجتمع المسلم المتكافل، وتؤسس لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية قبل أن تُطرح هذه المفاهيم في الفلسفات الحديثة بقرون طويلة. أُلقيت هذه الخطبة في اليوم التاسع من ذي الحجة سنة 10هـ في عرفة، في حشد مهيب من المسلمين تجاوز مائة ألف حاج، وكان هذا اللقاء بمثابة الختام للرسالة النبوية التي أتم الله بها الدين، وأكمل بها النعمة على البشرية.
السياق الزمني والمكاني للخطبة
جاءت خطبة حجة الوداع في عامٍ شهدت فيه الأمة الإسلامية ذروة توسعها الجغرافي والاجتماعي، فقد أرسل النبي ﷺ الرسائل إلى الملوك والدول يدعوهم للإسلام، وتم فتح مكة في العام الثامن للهجرة، وأصبح العرب كلهم تحت راية الإسلام. وكان النبي ﷺ قد بلغ من العمر 63 عامًا، وكان الوحي يُنذر باقتراب الأجل، فجاءت هذه الحجة رسالة وداع، وخطبتها بمثابة ميثاق إنساني خالد.
النص المحوري للخطبة
رُويت الخطبة في عدد من المصادر الصحيحة، ومنها ما جاء في صحيح مسلم، وسنن الترمذي، ومسند الإمام أحمد، بروايات متعددة تؤدي نفس المعاني. ومن أبرز ما جاء فيها:
“أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا… إلى أن قال: فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله… إلى أن ختم بقوله: فليبلغ الشاهد الغائب، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع“.
المحاور الأساسية في خطبة حجة الوداع
1. تحريم الدماء والأموال والأعراض
افتتح النبي ﷺ خطبته بالتأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض بين المسلمين، وجعل حرمتها كحرمة الزمان (شهر ذي الحجة) والمكان (مكة) والموقف (عرفة). هذه المقارنة تدل على مدى قدسية النفس الإنسانية في الإسلام، وجعلها أول ما يُبدأ به في خطاب الوداع، بما يحمل من دلالة على الأهمية القصوى لصيانة حقوق الأفراد.
“إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”
هذا النص يُعد حجر الزاوية في التشريع الإسلامي في باب الحقوق والدماء، وهو نص يتجاوز الزمان والمكان، إذ يحرم القتل والسرقة والاعتداء على العرض ويؤكد على كرامة الإنسان.
2. إلغاء الربا ومحو آثار الجاهلية
في الخطبة، أعلن النبي ﷺ إبطال كل ما كان يُعمل به في الجاهلية من ممارسات ظالمة، وعلى رأسها الربا، وبدأ بنفسه فقال:
“ألا وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون، وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله”
هذا الإعلان ليس فقط تحريماً اقتصادياً، بل إعلان عن ميلاد نظام مالي عادل، يُبطل الاستغلال ويضمن العدالة في المعاملات التجارية، ويلغي الفوائد الربوية التي كانت تُفقر الضعفاء وتُغني الأغنياء.
3. إرساء مبدأ المساواة بين البشر
من أعظم ما جاء في خطبة حجة الوداع هو تأكيد النبي ﷺ على وحدة الإنسانية، ونبذ التفرقة العنصرية، حيث قال:
“يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى”
هذه العبارة تضع أساسًا فلسفيًا عظيمًا للمساواة بين البشر، وتهدم كل الحواجز العرقية والطبقية، وتربط التفاضل الحقيقي بالتقوى فقط، لا بالنسب أو اللون أو اللسان.
4. حقوق المرأة ووجوب الإحسان إليها
في الخطبة، وجه النبي ﷺ عناية خاصة بحقوق المرأة، وقال:
“استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوانٍ (أي أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئاً”
هذا الإعلان النبوي جاء في زمن كانت فيه المرأة تُعامل كسلعة، فجاء الإسلام ليؤسس لحقوقها كزوجة وأم وأخت وابنة، ويُحمل الرجل مسؤولية الإحسان إليها، وجعل الزواج ميثاقًا غليظًا قائمًا على المسؤولية والرحمة.
5. تحقيق أمانة التبليغ والرسالة
أكد النبي ﷺ في نهاية خطبته على أداء الأمانة، حين قال:
“اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد”
ثم أمر من حضر أن يُبلغ الغائب، في دعوة واضحة لانتقال الدين إلى من لم يشهد الخطبة، وهذه العبارة تُمثل أعلى درجات أداء الرسالة النبوية، وتُشير إلى اكتمالها وتمامها.
6. التأكيد على مصدر التشريع
في ختام خطبته، أعلن النبي ﷺ قاعدة التشريع العليا في الإسلام:
“قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي”
هذه العبارة تُرسخ لمصدرين أساسيين لا ثالث لهما في التشريع: القرآن الكريم، وسنة النبي ﷺ. وهي دعوة للاستمرارية في الالتزام بالدين، وتحقيق الأمن الفكري والعقائدي للأمة.
7. إلغاء العصبية القبلية ومظاهر الجاهلية
أعلن النبي ﷺ سقوط كل ما يُميز الإنسان بسبب قبيلته أو نسبه:
“كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين”
بهذا الإعلان، قضى الإسلام على العصبيات القبلية، ومظاهر الغطرسة الطبقية التي كانت سائدة في المجتمعات الجاهلية، مؤسسًا لمجتمع يقوم على العدل والمساواة.
8. الوصية بالصلاة والعبادة
رغم أن الخطبة لم تتناول تفاصيل العبادات، إلا أن ما جاء في بعض الروايات يوصي بالصلاة:
“الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم”
لأنها عماد الدين، وأعظم ما يُقرب العبد إلى ربه، وهي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة.
الجدول التالي يلخص أهم محاور الخطبة وتأثيراتها:
| المحور | النص الوارد في الخطبة | التأثير التشريعي والاجتماعي |
|---|---|---|
| حرمة الدماء والأموال | “إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام” | حماية الإنسان وحقوقه المدنية |
| إلغاء الربا | “ألا وإن كل ربا موضوع” | تأسيس نظام اقتصادي قائم على العدالة |
| المساواة بين البشر | “لا فضل لعربي على أعجمي…” | القضاء على التمييز العرقي |
| حقوق المرأة | “استوصوا بالنساء خيراً” | تعزيز حقوق المرأة والوصاية بحمايتها |
| مصدر التشريع | “تركت فيكم ما إن تمسكتم به…” | تأسيس مرجعية التشريع الإسلامي |
| إلغاء العصبية الجاهلية | “كل شيء من أمر الجاهلية موضوع…” | تأسيس مجتمع متساوٍ خالٍ من الطبقية والتمييز |
| أداء الأمانة وتبليغ الرسالة | “اللهم هل بلغت؟” | التأكيد على أداء النبي للأمانة واكتمال الدين |
أثر خطبة حجة الوداع في التاريخ الإسلامي
خطبة حجة الوداع لم تكن مجرد خطاب ديني، بل شكلت “دستورًا” مصغرًا للأمة، استُلهِمت منه القوانين والتشريعات، وحرّكت الضمائر، وأسست لفكر إسلامي عالمي يقوم على العدل والمساواة. ومن بعدها، نزل قوله تعالى:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3]
فكانت هذه الآية إعلانًا إلهيًا لاختتام الرسالة، وتثبيتًا لمضامين الخطبة. وقد فُهم منها أن النبي ﷺ قد أتم مهمته، وودع أمته، وبدأت بعده مرحلة التطبيق والتوسع الحضاري.
الخاتمة
تظل خطبة حجة الوداع مَعلمًا خالدًا من معالم الحضارة الإسلامية، ونقطة تحوّل كبرى في صياغة الفكر الإنساني. لقد اختصر فيها النبي محمد ﷺ رسالة الإسلام كلها في كلمات جامعة مانعة، لتُصبح نهجًا أخلاقيًا وسلوكيًا يُحتذى به في كل زمان ومكان. لم تكن الخطبة مجرد توصيات، بل كانت إعلانًا شاملًا عن ميلاد إنسانية جديدة ترتكز على الرحمة، والعدالة، والمساواة، في ظل طاعة الله والاقتداء بسنة رسوله ﷺ.
المراجع
-
صحيح مسلم – كتاب الحج
-
ابن هشام – السيرة النبوية
