حكم دعاء الاستفتاح في الصلاة: دراسة فقهية مستفيضة
يعد دعاء الاستفتاح أحد الأذكار المشروعة التي يستهل بها المسلم صلاته. في هذا المقال، سنعرض حكم دعاء الاستفتاح، وسندرس الأدلة التي تثبت مشروعيته أو التي تنفيه، بالإضافة إلى توضيح كيفية العمل به في الصلاة وأهميته الروحية والفقهية.
مفهوم دعاء الاستفتاح في الصلاة
دعاء الاستفتاح هو الدعاء الذي يشرع للمسلم أن يقوله بعد تكبيرة الإحرام وقبل الشروع في قراءة الفاتحة، حيث يكون هذا الدعاء بمثابة بداية تفتح للمصلّي في صلاته، ويستهدف تعميق خشوعه وتوطيد صلته بالله تعالى في أول لحظة من لحظات العبادة. يطلق عليه اسم “دعاء الاستفتاح” لأن المسلم يبدأ به صلاته كما يبدأ فصول الكتابة بالاستفتاح، ليكون تمهيدًا للعبادة ولحظة تفرغ الذهن عن شؤون الدنيا.
حكم دعاء الاستفتاح في الصلاة
إن حكم دعاء الاستفتاح محل خلاف بين أهل العلم، فقد اختلف العلماء في مدى وجوب أو استحباب هذا الدعاء في الصلاة، ولكن الثابت من النصوص الشرعية أن دعاء الاستفتاح سنة مؤكدة وليس واجبًا. فيما يلي عرض لآراء الفقهاء:
القول الأول: دعاء الاستفتاح سنة مؤكدة
يذهب جمهور الفقهاء إلى أن دعاء الاستفتاح في الصلاة هو سنة مؤكدة، وليس بواجب. وقد استدلوا على ذلك بعدد من الأحاديث النبوية الصحيحة التي تبين كيفية الصلاة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على قول دعاء الاستفتاح، مع وجود عدة صيغ لهذا الدعاء، مما يشير إلى استحبابه لا وجوبه.
من أشهر الأدلة على ذلك ما ورد في الحديث الصحيح عن الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه قال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة قال: “اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد”.» (رواه البخاري ومسلم).
تأخذ هذه الرواية دورًا في أن دعاء الاستفتاح هو سنة مؤكدة، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه، ما يعزز استحبابه عند المسلمين. كما أن عدم إلزاميته يعني أن تركه لا يفسد الصلاة، ولكنه يُفقد الصلاة نوعًا من الكمال المطلوب.
القول الثاني: دعاء الاستفتاح واجب في الصلاة
في المقابل، هناك بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن دعاء الاستفتاح يجب على المسلم في الصلاة، وأوضحوا أن تركه يعد من قبيل ترك جزء من العبادة التي يجب الإتيان بها بشكل كامل. وهذه الفتوى قد تكون نادرة في المذاهب الفقهية السائدة، إذ لا يُشترط غالبًا إتمام دعاء الاستفتاح في الصلاة حتى تُقبل.
على سبيل المثال، قد يُحتج بأن هناك إشارة واضحة في بعض التفاسير أن الصلاة تكون ناقصة بدون دعاء الاستفتاح، وهو ما يؤثر على تكامل العبادة.
كيفية أداء دعاء الاستفتاح وصيغته
يجب على المصلي أن يؤدي دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، وقبل أن يشرع في قراءة سورة الفاتحة، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الدعاء لا يُلزم المصلّي بالصيغ المحددة، بل هناك عدة صيغ واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها جائزة.
من أبرز صيغ دعاء الاستفتاح التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم:
-
دعاء الاستفتاح المشهور:
«اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد.» -
دعاء الاستفتاح في رواية أخرى:
«سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.» -
دعاء آخر ورد في بعض الأحاديث:
«اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ومن همزاته ونفثاته.»
هل يجوز ترك دعاء الاستفتاح؟
نعم، يجوز ترك دعاء الاستفتاح في الصلاة، ويظل المصلي متكامل الصلاة، ولا تؤثر صلاته إذا لم يقله. كما ذكرنا سابقًا، لا يعد دعاء الاستفتاح جزءًا واجبًا من الصلاة في المذهب السني، وإن كان تركه يعد إخلالًا يسيرًا بكمال الصلاة. على الرغم من ذلك، يُفضل للمرء أن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، حيث إن الأجر يتضاعف باتباع السنن النبوية التي وردت في الحديث الشريف.
إذًا، لا فوات في الصلاة إذا ترك المسلم دعاء الاستفتاح، ولكن يظل الدعاء مستحبًا ويحسن بالمسلم أن يلتزم به لتكمل الصلاة ويرتقي في عبادته.
أهمية دعاء الاستفتاح في الصلاة
إن دعاء الاستفتاح ليس مجرد كلمات تقال في بداية الصلاة، بل له أهمية كبيرة على المستوى الروحي والذهني. حيث يُعد هذا الدعاء لحظة يبدأ فيها المسلم بالتركيز في الصلاة ويشعر فيها بتجديد التوبة وطلب المغفرة من الله تعالى، مما يعزز التأثير الروحي للصلاة ويزيد من خشوع القلب. كما أن دعاء الاستفتاح يعد نوعًا من أنواع تطهير النفس من الذنوب والخطايا التي تراكمت خلال اليوم.
علاوة على ذلك، دعاء الاستفتاح يبعث في النفس الطمأنينة ويعطي المصلّي فرصة للتخلص من المشاعر السلبية والهموم التي قد تكون في قلبه. ذلك أن الكلمات التي ترد في الدعاء، مثل “اللهم باعد بيني وبين خطاياي”، تذكّر المصلّي بنعمة المغفرة والتوبة التي منحها الله للمسلمين، مما يزيد من عاطفة الحب والخشوع تجاه الخالق.
دعاء الاستفتاح في المذاهب الفقهية
المذهب الحنفي:
في المذهب الحنفي، يعتبر دعاء الاستفتاح مستحبًا، لكنه ليس من أركان الصلاة. يمكن للمصلي أن يختار بين مجموعة من الأدعية المأثورة في هذا الخصوص. وعلى الرغم من استحبابه، لا يُلزم به المسلم، ويظل تركه غير مفسد للصلاة.
المذهب المالكي:
يرى المالكية أن دعاء الاستفتاح من السنن المؤكدة التي يُستحب الالتزام بها، ولكنه ليس من أركان الصلاة. ولا يُفقد المسلم الصلاة إذا تركه، لكنه يعد خللاً في الكمال والتمام. يُستحب في المذهب المالكي أن يتم دعاء الاستفتاح بصيغ مختلفة، كما يمكن أن يتنوع هذا الدعاء.
المذهب الشافعي:
أما في المذهب الشافعي، فقد أشار الفقهاء إلى أن دعاء الاستفتاح سنة مؤكدة، لكن عدم قوله لا يُبطل الصلاة. ويلزم المصلّي القول بصيغ مختلفة من الأدعية المشروعة والمأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
المذهب الحنبلي:
في المذهب الحنبلي، لا يختلف الحكم كثيرًا عن باقي المذاهب، حيث يُعتبر دعاء الاستفتاح سنة مؤكدة، ويستحب للمصلي أن يقول الدعاء في الصلاة، ولكنه ليس واجبًا.
الخلاصة
في الختام، يعتبر دعاء الاستفتاح في الصلاة سنة مؤكدة عند جميع المذاهب الإسلامية الكبرى، ولا يعد من أركان الصلاة، بحيث يمكن تركه دون أن يؤثر على صحة الصلاة. على الرغم من ذلك، يُستحب للمسلم الإكثار من الدعاء في هذه اللحظات المبكرة من الصلاة لتحقيق المزيد من الخشوع والتأثر الروحي. تظل صيغ دعاء الاستفتاح متعددة وتحتمل الاجتهاد، مما يجعلها مرونة للصلوات اليومية.
