حكم الاستنشاق في الوضوء

حكم الاستنشاق في الوضوء

الوضوء هو أحد أعظم شعائر الإسلام، وهو شرط أساسي لصحة الصلاة والطهارة، وقد أولته الشريعة الإسلامية اهتمامًا بالغًا باعتباره المدخل إلى المناجاة مع الله عز وجل. ومن بين أركان الوضوء وسننه، يأتي الاستنشاق كعنصر مهم له أبعاده الشرعية والصحية. وقد تنوعت آراء العلماء حول حكم الاستنشاق، وهل هو فرض أو سنة؟ وما الدليل على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما أثر الاستنشاق في صحة الوضوء؟ هذه المسائل وأخرى تتعلق بالاستنشاق سيتم تفصيلها في هذا المقال المفصل الذي يعرض الحكم الشرعي للاستنشاق في الوضوء، مستندًا إلى الأدلة النقلية والفقهية، ومبرزًا آراء المذاهب الإسلامية الأربعة وما استقر عليه العمل عند العلماء.

تعريف الاستنشاق في اللغة والاصطلاح

في اللغة: الاستنشاق مأخوذ من مادة “شَمّ”، واستنشاق الشيء يعني إدخاله في الأنف بنَفَس.

في الاصطلاح الشرعي: هو إدخال الماء في الأنف أثناء الوضوء، وذلك عن طريق جذبه بالنفس إلى داخل الأنف، ويتبعه عادة “الاستنثار”، وهو إخراج الماء من الأنف، لإزالة ما قد يكون فيه من أذى أو نجاسة.

مشروعية الاستنشاق وأهميته

الاستنشاق من سنن الوضوء الثابتة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في أحاديث كثيرة أنه كان لا يتوضأ إلا وقد استنشق. وقد وصف الصحابة رضوان الله عليهم وضوءه، فذكروا الاستنشاق ضمن أفعاله، مما يدل على تكراره واستمراره عليه، وهو من سنن الفطرة أيضًا.

وقد ورد عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

“وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً”

رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.

وهذا الحديث يدل على أن الاستنشاق مشروع، بل ومستحب فيه المبالغة إلا في حالة الصيام، خشية دخول الماء إلى الجوف.

آراء الفقهاء في حكم الاستنشاق

أولاً: المذهب الحنفي

يرى الحنفية أن الاستنشاق واجب، وليس مجرد سنة، ويرون أن تركه يخل بكمال الطهارة. واستدلوا بذلك على كثرة ما ورد في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يُروَ عنه أنه ترك الاستنشاق في أي وضوء.

ثانيًا: المذهب المالكي

يرى المالكية أن الاستنشاق من السنن المؤكدة في الوضوء، وليس من الفروض ولا الواجبات، ولكنه مستحب فعلُه اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يترتب على تركه بطلان الوضوء.

ثالثًا: المذهب الشافعي

يرى الشافعية كذلك أن الاستنشاق سنة من سنن الوضوء، وليس من أركانه ولا واجباته. ويستحب فعله اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُكره تركه مع القدرة عليه.

رابعًا: المذهب الحنبلي

الحنابلة يقسمون أفعال الوضوء إلى فرائض وسنن، ويجعلون الاستنشاق من السنن، ويحثون على المبالغة فيه إن لم يكن الإنسان صائمًا.

أدلة القائلين بفرضية الاستنشاق

يستند من يرى أن الاستنشاق واجب أو فرض إلى أمور منها:

• كثرة ورود فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الوضوء.

• حديث لقيط بن صبرة: “وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا”، ويُفهم من الأمر أن له صفة الإلزام إلا أن صارفًا من الصيام قد دل على عدم الإلزام حينها.

• أن الأنف أحد المنافذ إلى الجوف، وفيه احتمال للنجاسة، فيُطلب تطهيره تمامًا كما يُطلب غسل باقي الأعضاء.

أدلة القائلين بسنية الاستنشاق

أما من يرى أن الاستنشاق سنة فيستند إلى:

• أن الآية الكريمة التي بينت فرائض الوضوء في سورة المائدة:
  
  “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ”
  
  لم تذكر الاستنشاق، فدل على أنه ليس من الفروض.

• أن هناك تفصيلًا بين الفرض والسنة في الأحاديث النبوية، ولم يُصرّح في أي حديث بأن ترك الاستنشاق يبطل الوضوء.

• أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمبالغة فيه في غير حال الصيام، مما يدل على أنه سنة مؤكدة تُبالغ فيها ما لم يكن صيام.

حكم المبالغة في الاستنشاق

المبالغة في الاستنشاق مأمور بها، إلا في حالة الصيام. ومعنى المبالغة أن يصل الماء إلى أقصى الأنف من الداخل، ما لم يكن هناك ضرر. وقد نص الحديث النبوي على ذلك بصراحة، فقال صلى الله عليه وسلم:

“وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا”

رواه أصحاب السنن وصححه الألباني.

فوائد الاستنشاق الشرعية والصحية

الاستنشاق لا يقتصر فقط على كونه عبادة وطاعة، بل له أيضًا فوائد صحية عظيمة أثبتتها الدراسات الطبية:

1. تنظيف الأنف من الشوائب: إذ يعمل الاستنشاق على إزالة الغبار، والجراثيم، والمخاط الزائد من مجرى التنفس.

2. تقوية الحواس: المداومة على الاستنشاق تقوّي حاسة الشم وتفتح المجاري التنفسية.

3. الوقاية من الأمراض التنفسية: بسبب تنظيف الممرات الأنفية من البكتيريا والفيروسات.

4. تحقيق الطهارة التامة: إذ الأنف موضع تجمع الأوساخ، ومن تمام الطهارة الشرعية تطهيره.

ضوابط الاستنشاق في الوضوء

الترتيب مع أعضاء الوجه

الاستنشاق تابع لغسل الوجه، ويُستحب أن يكون بعد غسل الكفين وقبل غسل الوجه أو أثناءه، لأن الأنف من الوجه، ومن تمام غسله الاستنشاق.

عدد مرات الاستنشاق

يُستحب الاستنشاق ثلاث مرات، كما هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في معظم روايات الوضوء، وهذا ما اتفقت عليه المذاهب الفقهية.

ترك الاستنشاق عمدًا أو نسيانًا

• عند من يرى وجوبه (كالحنفية): تركه يُبطل الوضوء عندهم.

• عند الجمهور: لا يبطل الوضوء بتركه، وإن كان تاركه قد فرّط في سنة مؤكدة.

الاستنشاق في الغسل

كما أن الاستنشاق مشروع في الوضوء، فهو كذلك في الغُسل من الجنابة أو الحيض أو النفاس. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

“إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل فرجك، ثم توضأ وضوءك للصلاة”، وفي بعض رواياته: “ثم أدخل الماء في منخريك”، أي استنشق.

وهذا يؤكد أن الاستنشاق ليس خاصًا بالوضوء فقط، بل يدخل في عموم الطهارات.

الاستنشاق للصائم

يُشرع للصائم أن يستنشق ولكن بغير مبالغة، كما نص الحديث على ذلك، خشية دخول الماء إلى الجوف من طريق الأنف، مما يؤدي إلى فساد الصيام. وهذه خصوصية من خصوصيات عبادة الصوم التي تُراعى فيها الاحتياطات في كل ما يمكن أن يفسد الصيام.

رأي ابن تيمية وابن القيم في المسألة

يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الاستنشاق من كمال الطهارة، وأن فعله سنة مؤكدة لا ينبغي تركها، خاصة لمن يقدر عليها.

أما الإمام ابن القيم فنوّه إلى أن ترك الاستنشاق مع القدرة عليه فيه إخلالٌ بكمال اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن طهارة الإنسان لا تكون كاملة بدونه.

خاتمة تفصيلية

بعد استعراض أقوال العلماء في حكم الاستنشاق في الوضوء، يتبين أن الجمهور من أهل العلم يرون أنه سنة مؤكدة، بينما يراه الحنفية واجبًا، ولا شك أن الاحتياط في العبادة هو الأخذ بالأكمل، أي بالعمل بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا، وهو إدخال الماء في الأنف ثلاثًا والمبالغة فيه إلا حال الصيام. فالمسلم إذا داوم على ذلك حاز الأجر من جهة السنة، ونال الطهارة التامة، وحقق الاتباع الأمثل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

المراجع:

1. الفقه الإسلامي وأدلته – وهبة الزحيلي، دار الفكر.

2. الشرح الممتع على زاد المستقنع – محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي.