التقليد وحقيقة البويات: ظاهرة مركبة بين التأثر الاجتماعي والانحراف السلوكي
مقدمة
شهدت المجتمعات العربية في العقود الأخيرة تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية والثقافية، أثرت بشكل كبير على سلوك الأفراد، لا سيما في أوساط الشباب. ومن بين الظواهر التي أثارت الجدل والنقاش المكثف ظاهرة ما يُعرف بـ”البويات”، والتي تُشير في السياق الخليجي والعربي إلى الفتيات اللاتي يتبنين سلوكيات، مظهرًا، وميولًا ترتبط بالنمط الذكوري. وعلى الرغم من كون هذه الظاهرة ليست جديدة بالكامل، فإن تفشيها وتزايدها في أوساط الفتيات في المدارس والجامعات، وحتى في الفضاءات الإلكترونية، بات يطرح تساؤلات حول جذورها، حقيقتها، وتأثيرها على البناء المجتمعي والقيم الثقافية السائدة.
تعريف البويات
مصطلح “البويات” هو تعريب شعبي لكلمة “boyish” بالإنجليزية، ويُستخدم في الأوساط الخليجية والعربية للإشارة إلى الفتيات اللاتي يتصرفن أو يبدين كالأولاد من حيث اللباس، التصرفات، وحتى الميول الجنسية في بعض الأحيان. ويرتبط هذا المصطلح بسلوكيات معينة قد تشمل ارتداء الملابس الذكورية، قصات الشعر القصيرة جدًا، الحديث بأسلوب حاد وجاف، ومحاولة فرض الهيمنة في العلاقات الاجتماعية.
وفي بعض الحالات، يرتبط سلوك “البويات” بميول جنسية مثلية، حيث تُبدي الفتاة انجذابًا عاطفيًا أو جنسيًا نحو بنات جنسها، غير أن هذا لا ينطبق على جميع الحالات، إذ أن بعض الفتيات يندفعن لتقليد الذكور لأسباب تتعلق بالهوية أو إثبات الذات دون أن يكون الأمر مرتبطًا بالميول الجنسية.
السياق الثقافي والاجتماعي للظاهرة
لا يمكن فهم ظاهرة “البويات” بمعزل عن السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه. المجتمعات العربية، بطبيعتها، مجتمعات محافظة تنظم علاقات الأفراد على أساس الأدوار الجندرية التقليدية الصارمة. الرجال يُتوقع منهم أن يكونوا أقوياء، حازمين، وقادة، بينما يُتوقع من النساء أن يكنّ لطيفات، خاضعات، ومهتمات بالأسرة والمظهر. أي خروج عن هذا النسق يُعتبر خروجًا عن المعايير الأخلاقية والثقافية، ويُنظر إليه بعين الريبة أو الإدانة.
في هذا السياق، يمكن أن يُفهم تبني بعض الفتيات لأنماط سلوكية ذكورية كرد فعل على القمع أو التهميش الذي يشعرن به في محيطهن، أو كنتيجة مباشرة للاضطراب في تحديد الهوية، خاصة في مرحلة المراهقة. كما تلعب العولمة والإعلام الحديث دورًا بارزًا في تقديم أنماط جديدة من السلوك والهويات التي تؤثر على الشباب، وتُعيد تشكيل مفهومهم للذات وللآخر.
عوامل نشوء الظاهرة
يمكن تقسيم العوامل المساهمة في بروز ظاهرة البويات إلى عدة محاور، تتداخل فيما بينها، وتشكل خلفية معقدة تتطلب فهمًا عميقًا:
1. التفكك الأسري وضعف الرقابة
الأسرة هي البنية الأساسية في المجتمع، وحين تعاني من التفكك أو ضعف التماسك، فإن الأبناء، لا سيما في مرحلة المراهقة، يبحثون عن بدائل لتحقيق الأمان العاطفي والانتماء. في حال غياب دور الأب أو ضعف العلاقة مع الأم، قد تنمو مشاعر الرفض أو التمرد لدى الفتاة، وتُترجم إلى تقليد النموذج الذكوري بحثًا عن قوة أو إثبات للذات.
2. التأثير الإعلامي والثقافة الشعبية
وسائل الإعلام الحديثة، لا سيما المسلسلات الأجنبية، ومنصات التواصل الاجتماعي، تروج لأنماط جديدة من الهويات الجندرية غير التقليدية، وتُظهر الشخصيات التي تتبنى هذه الأنماط على أنها جذابة، مستقلة، وقوية. هذا يعزز من انجذاب بعض الفتيات نحو هذه الهويات، خاصة إذا لم يكن لديهن الوعي الكافي للتفريق بين الهوية الحقيقية والتقليد السطحي.
3. البيئة المدرسية وغياب التوجيه
تلعب المدارس دورًا أساسيًا في تنمية شخصية الفرد، ولكن في كثير من الأحيان، تكون البيئة المدرسية بيئة خصبة لتفشي الظواهر السلوكية غير السوية بسبب ضعف الرقابة، وانعدام التوجيه التربوي. الفتاة التي تظهر سلوكًا ذكوريًا قد تُستقبل بإعجاب أو اهتمام من قبل بعض الزميلات، مما يعزز من استمرارها في هذا السلوك كوسيلة للقبول أو التميز.
4. التقليد والرغبة في لفت الانتباه
في كثير من الأحيان، يكون سلوك “البويات” مجرد تقليد سطحي بدافع التمرد أو جذب الانتباه، لا سيما في مراحل المراهقة التي تتميز بالتغيرات النفسية والبحث عن الذات. وقد يكون أيضًا نتيجة لمفهوم خاطئ حول “القوة” و”الحرية”، حيث تعتقد بعض الفتيات أن اتخاذ نمط ذكوري هو الطريق لتحقيق مكانة أو احترام في مجتمع ذكوري بطبعه.
الأبعاد النفسية والسلوكية
من الناحية النفسية، يمكن أن ترتبط ظاهرة البويات بعدة اضطرابات أو حالات نفسية، مثل اضطراب الهوية الجندرية، أو القلق الاجتماعي، أو الاكتئاب. في بعض الحالات، يكون لدى الفتاة تجارب صادمة في الطفولة، مثل الاعتداء أو الإهمال، مما يؤدي إلى تشوه في العلاقة مع الذات والجسد، وقد تُترجم هذه الحالة إلى إنكار للهوية الأنثوية.
لكن من الخطأ أيضًا تعميم هذا التحليل، فليس كل من تتصرف بسلوك ذكوري تعاني من اضطراب نفسي. بعض الفتيات يختبرن حدود الهوية بشكل مؤقت، وسرعان ما يعدن إلى نمط السلوك التقليدي بعد مرحلة من التجربة.
التأثير على المجتمع والقيم التربوية
ظهور وانتشار هذه الظاهرة يثير قلقًا تربويًا واجتماعيًا، لأنها تلامس القيم الأساسية في المجتمعات العربية المتعلقة بالهوية، والأدوار الجندرية، والانتماء الأسري. وقد تؤدي إلى خلق نماذج مشوهة أو مشوشة لدى الأجيال الأصغر سنًا، خاصة عندما تُعرض هذه السلوكيات على أنها “حرية شخصية” أو “اختلاف طبيعي”، دون توجيه أو تأطير تربوي يوازن بين حرية الفرد والمصلحة العامة.
كما أن انتشار الظاهرة قد يؤدي إلى انقسامات داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع، نتيجة التباين في الرؤى حول كيفية التعامل مع هذه السلوكيات، بين من يراها انحرافًا يجب قمعه، ومن يدعو إلى تقبل الاختلافات الفردية دون شروط.
الموقف الديني من الظاهرة
من منظور الشريعة الإسلامية، فإن السلوكيات التي تتضمن تشبه النساء بالرجال أو العكس تُعد من المحرمات الواضحة، لما فيها من مخالفة للفطرة الإنسانية وتحدٍ للحدود التي رسمها الله تعالى للذكر والأنثى. وقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله ﷺ “لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال” (رواه البخاري).
وهذا لا يعني بالضرورة الدعوة إلى ممارسة العنف أو الإقصاء تجاه من يظهرن سلوكيات “بويات”، بل يجب التعامل مع الظاهرة من منطلق إصلاحي وتربوي، يهدف إلى الفهم والتوجيه، لا إلى التنفير أو التنكيل.
الحلول التربوية والاجتماعية
لمعالجة ظاهرة البويات يجب تبني مقاربة شاملة تتضمن محاور متعددة:
1. تعزيز دور الأسرة
يجب على الأسرة أن تكون الحضن الأول الذي يمنح الأبناء القبول والدعم والتوجيه. من المهم الإنصات إلى الفتاة وفهم ما تمر به من مشكلات نفسية أو اجتماعية، بدلًا من اللجوء إلى العقاب أو التهديد.
2. تطوير المناهج التعليمية
يجب أن تتضمن المناهج الدراسية مقررات تعزز الهوية الجنسية السليمة، وتوضح الفرق بين الأدوار الجندرية دون ترسيخ التحيز، إلى جانب تنمية الوعي بالمخاطر النفسية والاجتماعية للسلوكيات المنحرفة.
3. رقابة وسائل الإعلام
ينبغي ضبط المحتوى الذي يُعرض للأطفال والمراهقين، والحد من بث الصور أو القصص التي تروج للانحرافات السلوكية تحت ستار “الحرية الفردية” أو “حقوق الإنسان”، خاصة في الفئات العمرية غير القادرة على التمييز.
4. توفير الدعم النفسي
الكثير من الحالات قد تكون بحاجة إلى تدخل نفسي مهني يساعد الفتاة على فهم ذاتها وهويتها بطريقة صحية، خاصة في حال وجود خلفيات صادمة أو اضطرابات في النمو العاطفي.
5. تمكين المرأة دون تذويب الهوية
على المجتمعات أن تعمل على تمكين المرأة ودعم استقلاليتها، دون أن يُفهم ذلك على أنه دعوة لطمس الفروق البيولوجية والجندرية، أو تقليد الرجل كطريق وحيد لتحقيق الذات.
مقارنة الجدولية: بين الفتاة ذات الهوية المتزنة و”البوية”
| المعايير | الفتاة ذات الهوية المتزنة | الفتاة التي تتبنى نمط البويات |
|---|---|---|
| المظهر الخارجي | أنثوي يعبر عن الذات | مذكر بشكل مفرط أو متعمد |
| العلاقات الاجتماعية | مبنية على الاحترام المتبادل | قد تتسم بالسيطرة أو الغموض |
| الميول النفسية | متوافقة مع الجنس البيولوجي | قد تشهد اضطرابات أو ميل للمثلية |
| العلاقة مع الأسرة | متوازنة وواضحة | متوترة أو تتسم بالانفصال العاطفي |
| الدور في المجتمع | تنموي ومتكامل | إشكالي وقد يثير الجدل أو الصراع |
الخاتمة
ظاهرة البويات لا يمكن اختزالها في صورة نمطية أو تفسير واحد، فهي نتاج معقد لتحولات نفسية، اجتماعية، وثقافية. التعامل معها يتطلب وعيًا تربويًا، واحتواءًا أسريًا، وإصلاحًا ثقافيًا يوازن بين احترام خصوصية الفرد والحفاظ على القيم الاجتماعية والدينية. إن المعضلة الحقيقية لا تكمن في الظاهرة بحد ذاتها، بل في غياب الفهم العميق لها، وتركها تنتشر دون توجيه أو تقويم. المجتمعات التي تسعى إلى الاستقرار والبناء تحتاج إلى إعادة الاعتبار للهوية الجندرية المتزنة، القائمة على الفطرة، والمبنية على الاحترام والتكامل بين الرجل والمرأة.
المراجع:
-
القرضاوي، يوسف. (1998). الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف. دار الشروق.
-
American Psychological Association. (2022). Guidelines for Psychological Practice with Sexual Minority Persons. APA.
