عنوان المقال: حسن الظن بالله
المقدمة
يُعد حسن الظن بالله من أعظم أبواب الإيمان، ومن أرقى منازل التوكل، وهو عبادة قلبية عظيمة تدل على عمق العقيدة وصفاء اليقين بالله تعالى. فالمؤمن الذي يحسن الظن بربه يعيش حياة مطمئنة، وينظر إلى قدر الله بعين الرضا، ولا ييأس من رحمة الله مهما اشتدت به المحن أو تعاقبت عليه المصائب. ولأهمية هذه المنزلة في حياة المسلم، فقد أثنى الله عز وجل على أصحابها، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التخلق بها، وربط بين حسن الظن به وبين نيل رحمته ورضوانه، بل وعلّق على هذا الخلق العظيم آثاراً عظيمة في الدنيا والآخرة.
أولًا: تعريف حسن الظن بالله
حسن الظن بالله هو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه وتعالى لا يأتي إلا بالخير، وأن كل ما يقضي به للعبد هو لصالحه وإن خفيت عنه الحكمة. وهو أن يظن العبد أن ربه سيرحمه ويعفو عنه، وأنه سيقبل توبته، ويغفر ذنبه، ويفرج كربه، ويجبر كسوره، ويرزقه من حيث لا يحتسب. فحسن الظن ينبع من معرفة أسماء الله وصفاته، ومن الإيمان بأنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأعدل العادلين، وأعلم بعباده من أنفسهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء” (رواه أحمد). فهذا الحديث أصل عظيم في باب الرجاء وحسن الظن، ويؤكد أن العبد إن أحسن الظن بربه، فإن الله يكون له كما ظن، وإن أساء ظنه، فله ما ظن.
ثانيًا: الفرق بين حسن الظن بالله والغرور
يخلط البعض بين حسن الظن بالله وبين التهاون والتفريط والغرور، وهذا خلط خطير. فحسن الظن بالله لا يعني أن يترك الإنسان العمل الصالح ويتمادى في المعاصي بحجة أن الله غفور رحيم، فهذا من التمني الباطل وسوء الظن المغلف بغطاء كاذب.
قال الحسن البصري: “إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل”.
فحسن الظن هو الذي يدفع العبد إلى التوبة والعمل الصالح، والابتعاد عن المعاصي، والثقة بأن الله سيقبل منه، لا أن يسترسل في الغفلة والمعصية ويظن أن ذلك من حسن الظن.
ثالثًا: المواضع التي يُستحب فيها حسن الظن بالله
1. عند الدعاء
من أعظم المواطن التي يظهر فيها حسن الظن بالله هو حين الدعاء، فالمؤمن يدعو ربه وهو موقن بالإجابة، ويعلم أن الله لا يرد يديه صفراً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة” (رواه الترمذي).
وحسن الظن عند الدعاء أن يظن العبد أن الله سيسمع دعاءه، وسيجيب طلبه، ولو تأخرت الإجابة أو جاءت على غير ما يريد، فإنه يحسن الظن أن الله أعطاه خيرًا مما طلب.
2. عند التوبة والرجوع إلى الله
التوبة باب عظيم من أبواب الرحمة، ولا يمكن أن يلجه العبد إلا وهو محسن الظن بالله. فالمذنب إذا رجع إلى ربه تائبًا منيبًا، ظن به أن يقبل توبته، ويغفر ذنبه، ويبدل سيئاته حسنات، وهذا عين حسن الظن.
قال الله تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53]
فالعبد مهما كثرت ذنوبه، إذا أقبل بقلب منيب، وظن بربه خيرًا، نال عفوه.
3. عند المرض والمحن والابتلاءات
الابتلاءات والشدائد من مظان حسن الظن بالله، فالمؤمن حين تصيبه مصيبة لا يجزع ولا يظن السوء، بل يقول: “لعله خير”، و”ربما أراد الله لي بذلك تكفيرًا أو رفعة”، فيسكن قلبه وتسكن جوارحه.
وقد قال ابن القيم: “ولو كشف الغطاء لعبد المؤمن في الدنيا، لرأى أن الله ما منع عنه إلا ليعطيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه، وما أماته إلا ليحييه”.
4. عند الاحتضار
من أعظم المواطن التي يُستحب فيها حسن الظن بالله هي ساعة الاحتضار. ففي هذه اللحظة الفاصلة بين الدنيا والآخرة، ينبغي للمؤمن أن يملأ قلبه برجاء رحمة الله، ويغلب حسن ظنه به.
وقد جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول:
“لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله” (رواه مسلم).
5. عند وقوع المصائب وخسارة الدنيا
قد يُبتلى الإنسان في ماله أو عمله أو أهله أو رزقه، فيتغير عليه حاله، وهنا يظهر حسن الظن بالله بأن ما قدره الله له هو الخير بعينه، ولو لم يفهم معناه الآن.
وقد قال يوسف عليه السلام حين أخرجه الله من السجن وأعلى شأنه بعد سنوات من الظلم:
﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ [يوسف: 100]
رابعًا: فوائد حسن الظن بالله
| الفائدة | التوضيح |
|---|---|
| الطمأنينة القلبية | من أحسن الظن بالله، هدأ قلبه، واطمأنت نفسه، ولم يضطرب عند الشدائد |
| دافع قوي للعبادة | لأنه يرجو رحمة الله، فهو يعمل الصالحات بإقبال ورضا |
| النجاة من القنوط | يبعد صاحبه عن اليأس من رحمة الله، مهما كثرت ذنوبه أو اشتدت خطاياه |
| السكينة عند الموت | يحسن الظن برحمة الله في آخر لحظات الحياة، فيموت مطمئنًا |
| الرضا بالقضاء والقدر | لأنه يعلم أن كل ما يقدره الله خير، سواء أدرك الحكمة أم لم يدركها |
خامسًا: نماذج من حسن الظن بالله في سيرة الأنبياء والصالحين
1. إبراهيم عليه السلام
عندما ألقي في النار، قال حسبنا الله ونعم الوكيل، ولم يجزع، فأحسن الظن بالله فجعل الله النار عليه بردًا وسلامًا.
2. موسى عليه السلام
حين تبعهم فرعون وجنوده، وقال قومه: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، رد عليهم موسى عليه السلام:
﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]
فانشق البحر له، ونجا هو ومن معه.
3. النبي محمد صلى الله عليه وسلم
في الغار، حين قال له أبو بكر: “لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا”، قال:
“ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟” (رواه البخاري)
فأحسن الظن بربه، وحماه الله وأنجاه.
4. المرأة التي سامحت زوجها القاتل
ورد في السير أن امرأةً جاءها خبر مقتل زوجها، فقالت: “رحم الله زوجي، لعل الله قد اصطفاه لشهادته”، فكانت من أعظم من جسّد حسن الظن بالله عند المصيبة.
سادسًا: أسباب تقوية حسن الظن بالله
-
معرفة أسماء الله وصفاته: فكلما ازداد علم العبد برحمة الله وحلمه وجوده، زاد حسن ظنه.
-
قراءة القرآن بتدبر: فإن آياته تغمر القلب بأمل لا ينقطع.
-
الاطلاع على سِيَر الأنبياء والصالحين: ففيها دروس في الرجاء والثقة.
-
مراجعة النعم السابقة: فالتفكر فيما أعطى الله في الماضي يعين على الثقة بما سيعطيه في المستقبل.
-
مداومة الاستغفار والتوبة: فمن يرجو المغفرة يدعوها بيقين، ويحسن الظن بربه أنه سيغفر.
الخاتمة
حسن الظن بالله ليس فقط خلقًا محمودًا، بل هو ضرورة إيمانية تبني علاقة قوية بين العبد وربه، وتُثمر طمأنينة في الدنيا وفوزًا في الآخرة. فكلما تعلق القلب بالله، وتيقن أن الخير كله بيده، وعاش في كنف رحمته وعدله، أشرق نور الرجاء في قلبه، وانقشعت غيوم القنوط واليأس. فطوبى لمن عاش حسن الظن، ومات عليه، ولقى الله وهو يظن أن الله به رحيم.
المصادر:
-
ابن القيم، مدارج السالكين
-
النووي، شرح صحيح مسلم
