الشباب والحرية المطلقة: بين الطموح والحدود

في كل مرحلة من مراحل تطور الإنسان، يبرز الشباب باعتباره الفترة الأكثر حيوية واندفاعًا في حياة الفرد، حيث تتلاقى الطاقة البدنية مع الفضول العقلي، وينمو الإحساس المتصاعد بالذات وبالقدرة على التغيير والتأثير. من بين المفاهيم المرتبطة بهذه المرحلة، تبرز الحرية المطلقة كأحد أكثر التصورات جذبًا للشباب، باعتبارها تجسيدًا لتحرر الذات من القيود الاجتماعية، والأطر الأخلاقية، والنُظم الثقافية التي قد يراها البعض كعقبات أمام انطلاق الذات وتحقيق الذات.

لكن، في خضم هذا الإحساس العارم بالقوة والتحرر، ينشأ سؤال وجودي أعمق، يتعلق بماهية الحرية نفسها، وما إذا كانت “المطلقة” منها تمثل واقعًا مشروعًا وقابلًا للتطبيق، أم أنها مجرد وهم يلامس الخيال، يرافق الفرد في مرحلة الاندفاع والحلم، ثم يتبدد أمام معطيات الحياة وحقائق التعايش الجماعي.

مفهوم الحرية المطلقة في الوعي الشبابي

الحرية، من حيث الأصل، تُعرَّف بأنها القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذ الفعل دون قيد خارجي مباشر، ولكن الحرية المطلقة تتجاوز هذا المفهوم لتشير إلى التحرر التام من كل سلطة، سواء كانت مجتمعية أو قانونية أو دينية أو حتى أسرية. في العقل الشبابي، تُنظر الحرية المطلقة غالبًا كوسيلة لتحقيق الذات، كطريق مفتوح بلا عوائق نحو التجربة والاكتشاف والانغماس في الحياة بكافة ألوانها وتجاربها.

في هذه المرحلة، يكون الشاب في ذروة وعيه بذاته، يبحث عن الاستقلال، عن الانعتاق من كل وصاية، ويطالب بأن يُعامل كفرد مكتمل الأهلية، قادر على اختيار طريقه وتقرير مصيره. وتتجلى الحرية المطلقة في هذا السياق في السلوكيات اليومية: اختيار المظهر، والتوجه الفكري، والنشاط الاجتماعي، والعلاقات العاطفية، والمسار الأكاديمي أو المهني.

غير أن هذه الرغبة المتقدة قد تصطدم بسرعة بجدران الواقع، وبالأنظمة التي تنظم العلاقات داخل المجتمع. فالشاب الذي يطالب بالحرية المطلقة قد يواجه بالمقابل رفضًا أو مقاومة من الأسرة أو المؤسسة التعليمية أو المجتمع الأوسع، خصوصًا عندما تكون تلك الحرية في تعارض مع القيم السائدة أو مع قواعد السلوك الجماعي.

الطابع الفلسفي للحرية وحدودها الموضوعية

في الفكر الفلسفي، ناقش المفكرون منذ قرون مفهوم الحرية وحدودها. رأى “جون ستيوارت ميل” مثلًا أن الحرية يجب أن تكون مكفولة لكل فرد طالما لا تتعدى على حرية الآخرين. بينما رأى “جان جاك روسو” أن الإنسان يولد حرًا لكن المجتمع يقيده بسلاسل من القوانين والأعراف. وذهب “إيمانويل كانت” إلى أن الحرية ليست مجرد إطلاق للرغبات، بل التزام أخلاقي نابع من الإرادة الحرة الواعية.

هذا الطرح الفلسفي يعكس بوضوح التوتر بين الحرية المطلقة والمسؤولية الأخلاقية. فالشاب الذي يتبنى مفهوم الحرية المطلقة غالبًا ما يرفض أي شكل من أشكال التقييد، دون أن يدرك أن حرية الفرد في مجتمع بشري ليست ممكنة إلا ضمن إطار من القواعد التي تضمن التوازن بين الحقوق والواجبات. الحرية المطلقة، إن لم تُقرَن بالمسؤولية، قد تتحول إلى فوضى، تؤدي إلى تصادم بين الحريات الفردية داخل الحيز الاجتماعي.

السياق الاجتماعي والثقافي العربي

في المجتمعات العربية، تلعب العادات والتقاليد والدين دورًا محوريًا في تشكيل نظرة الفرد للحياة والحرية. الشباب العربي المعاصر، المتأثر بوسائل التواصل الحديثة وبالانفتاح على الثقافات العالمية، يجد نفسه في صراع بين رغبة داخلية في الانطلاق بلا قيود، وبين واقع مجتمعي قائم على ضوابط صارمة في بعض الأحيان.

تُطرح الحرية المطلقة في السياق العربي كشكل من أشكال التمرد على الواقع، على السلطة الأبوية، على النظم التعليمية التقليدية، وعلى التوجهات السياسية المقيدة. لكنها غالبًا ما تُقابل بسيل من الانتقادات والتخويف من التفلت والانهيار الأخلاقي. هذه الثنائية تُولد أزمة هوية لدى الشباب، ما بين الإيمان بالحق في التعبير والاختيار، وبين الخوف من العواقب الاجتماعية والقانونية.

في هذا الإطار، تُعد الحرية المطلقة في نظر الكثير من الكبار والمُشرعين تهديدًا للنظام المجتمعي، بينما يراها الشباب ضرورة للنهضة والتغيير، خصوصًا في ظل ما يشعر به بعضهم من انسداد أفق التغيير من داخل المؤسسات.

العلاقة بين الحرية والنضج

لا يمكن فهم الحرية المطلقة في عزلة عن مفهوم النضج. فالفرد كلما ازداد نضجه العقلي والعاطفي، كلما أعاد تعريف الحرية بمعايير أكثر توازنًا. الحرية، في أوجها، لا تعني إشباع الرغبات الآنية أو مخالفة القواعد لمجرد المخالفة، بل تعني امتلاك القدرة على التمييز بين ما يُفيد الذات ويُثريها، وبين ما يُدمرها أو يُضر بالآخرين.

النضج يفتح للفرد أفقًا لفهم أن الحرية لا تعني الإنفصال عن المسؤولية، بل تكمن عظمتها في تحمُّل نتائج الأفعال، وفي القدرة على الاختيار الواعي الذي يراعي ذاته والآخر في آن واحد. فالحرية الناضجة تُبنى على الوعي، لا على الاندفاع.

وبالتالي، فإن تصور الشباب للحرية المطلقة يجب أن يتحول مع مرور الوقت من رغبة في الانفلات من الضوابط، إلى بحث عن تحقيق الذات داخل سياقات من الاحترام والكرامة والتكافؤ في الحقوق.

الحرية المطلقة وسلطة التكنولوجيا

في العصر الرقمي، تبدو الحرية المطلقة وكأنها أقرب من أي وقت مضى، خاصة مع قدرة الشباب على التعبير عن آرائهم ومواقفهم على منصات التواصل الاجتماعي دون رقابة مركزية مباشرة. ولكن هذه “الحرية” الرقمية تظل محكومة بخوارزميات وأنظمة رقابة غير مرئية. ما يبدو كحرية مطلقة في العالم الرقمي قد يتحول إلى بيئة مراقبة دقيقة تُستغل فيها بيانات الأفراد، وتُوجَّه قراراتهم دون وعي منهم.

هذه المفارقة تضع الشباب في مواجهة حقيقة مُقلقة: أنهم وإن ظنوا أنفسهم أحرارًا في هذا الفضاء، فإنهم في الواقع داخل منظومة تُوجِّههم وتستثمر في سلوكياتهم. ما يُعيد طرح التساؤل الأساسي حول ماهية الحرية، وما إذا كانت ممكنة فعليًا خارج إطار السلطة أو التأثير.

آثار الإيمان بالحرية المطلقة على السلوك الفردي والمجتمعي

الإيمان المطلق بالحرية دون إدراك للعواقب قد يُنتج سلوكًا غير مسؤول، يتجلى في تمرد مفرط، ورفض للالتزام، وابتعاد عن قيم التعاون والتعاطف. قد تتحول الحرية المطلقة إلى أنانية مفرطة، لا ترى في الآخر سوى عائق، مما يُنتج نوعًا من التفكك الاجتماعي.

على مستوى العلاقات، قد يؤدي تبني مفهوم الحرية المطلقة إلى تدهور العلاقات الأسرية، وإضعاف الروابط الاجتماعية، حيث يصبح الفرد معزولًا في قراراته، رافضًا لأي تدخل حتى وإن كان لمصلحته. وقد يُنتج ذلك أيضًا شعورًا بالوحدة، والإحباط، عندما يُدرك الفرد أن الحرية دون حدود لا تعني بالضرورة السعادة أو النجاح.

دور المؤسسات التربوية والإعلامية

المؤسسات التعليمية والإعلامية تتحمل مسؤولية كبيرة في توجيه الشباب نحو فهم عميق للحرية، لا يقف عند حدود الرغبة الفردية، بل يتعداها إلى المسؤولية المجتمعية. من الضروري غرس مفهوم “الحرية الواعية” منذ المراحل التعليمية المبكرة، وتشجيع النقاشات الحرة، وتقديم نماذج إيجابية لشخصيات تحققت ذواتها من خلال التوازن بين الاستقلال والانتماء.

الإعلام بدوره يجب أن يكف عن ترسيخ صور نمطية مغلوطة عن الحرية، سواء من خلال تمجيد نماذج التمرد الفارغ أو تقديم الحرية كمجرد تحرر من الأخلاق أو القيم. بل يجب أن يروج للحرية كمسار للنمو، والانفتاح، والتعاون، والتنمية البشرية.

الجدول التالي يلخص المقارنة بين الحرية المطلقة والحرية المسؤولة:

الخاتمة

الحرية في جوهرها قيمة إنسانية عظيمة، لا تكتمل إلا بالنضج والمسؤولية. أما الحرية المطلقة كما يتصورها كثير من الشباب، فهي رغم جاذبيتها قد تتحول إلى سيف ذي حدين، يمنح التجربة والانطلاق من جهة، لكنه قد يؤدي إلى الفوضى والانعزال من جهة أخرى. وبين الطموح الفردي وضرورات الحياة الجماعية، تبقى الحرية المسؤولة هي الخيار الأمثل لبناء فرد واعٍ، ومجتمع متماسك، وحياة أكثر اتزانًا.

المراجع:

1. جون ستيوارت ميل، عن الحرية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، 2009.

2. إيمانويل كانت، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة موسى وهبة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1995.