حبب الناس في الله: دعوة إلى المحبة الخالصة لله وأثرها في تهذيب النفس وبناء المجتمعات

إن من أعظم ما يمكن للعبد أن يقوم به في حياته هو أن يكون سببًا في محبة الناس لربهم وخالقهم، الله سبحانه وتعالى. إن الدعوة إلى الله لا تقتصر على تعليم الأحكام الفقهية أو بيان العقائد، بل من أسمى مراتبها أن يُحبب العبد الناس في الله، ويوقظ في قلوبهم مشاعر الشوق إلى قربه والخضوع له، والأنس بذكره، والرضا بحكمه، والثقة بوعده. إن الحديث عن محبة الله لا ينبغي أن يكون مجرد كلام عابر، بل هو حديث عن أصل الدين، وجوهر العبادة، وسر الوجود الإنساني.

المحبة فطرة وغريزة وسر الخلق

الإنسان مفطور على الحب، فالحب جزء من تكوينه النفسي والروحي. فطره الله على محبة الخير والجمال، وعلى التعلق بمن يُحسن إليه، والأنس بمن يرحمه ويغفر له ويهديه. وليس ثمة من هو أجدر بمحبة العبد من ربه وخالقه، الذي خلقه فسواه، ورزقه وأكرمه، وهداه للإيمان، وأمهله إذا أخطأ، وقَبِل توبته إذا رجع، ويضاعف له الأجر على الطاعة، ويمحو عنه الذنب بالتوبة.

إن محبة الله للعبد تسبق محبة العبد لله، فقد قال النبي ﷺ: “لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضلَّه في أرض فلاة” (رواه البخاري ومسلم). فكيف لا يحب العبد من هذا شأنه مع خلقه؟ وكيف لا يُحبب الداعية الناس في من أحبهم قبل أن يحبوه، ورحمهم قبل أن يطلبوا رحمته؟

أهمية الدعوة إلى محبة الله

الدعوة إلى الله بدون محبة تُصبح مجرد جمل جافة، ومواعظ ثقيلة على النفوس. ولكن حين يُقدم الداعية الله إلى الناس باعتباره الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، القريب المجيب، الحليم الغفور، فإنه يوقظ فيهم أرقى المشاعر الروحية، ويقودهم إلى الإيمان عن طريق الحب لا عن طريق الخوف وحده.

إن كثيرًا من الناس يبتعدون عن الدين لا بسبب الكفر، بل بسبب صورة مشوهة عن الدين أو عن الله سبحانه وتعالى نُقلت إليهم، تصور الله فقط كمعاقب شديد العقاب، دون الحديث عن سعة رحمته، وعظيم عفوه، ولطفه بعباده، وحبه للمؤمنين. وحين يُصحح هذا التصور، وتُعرض على القلوب صورة الله الحقيقية كما جاءت في القرآن والسنة، فإن النفوس تنجذب إليه، وتأنس بذكره، وتجد في العبادة سعادة لا تُوصف.

أساليب تحبيب الناس في الله

تحبيب الناس في الله لا يتم بالكلمات المجردة فحسب، بل هو عملية متكاملة تبدأ من الفهم العميق لطبيعة النفس البشرية، ولصفات الله عز وجل، وتحتاج إلى حكمة في العرض، ورحمة في الخطاب، وصبر في الطريق. وفيما يلي أبرز الأساليب الفعّالة في ذلك:

1. إظهار جمال صفات الله

من أعظم وسائل تحبيب الناس في الله هو بيان جمال أسمائه وصفاته، لا سيما تلك التي تتصل بالرحمة، والعفو، والكرم، واللطف، والحلم، والقبول. فالناس تحتاج إلى الأمان، ومتى رأت أن الله هو “السلام”، وأنه هو “الرحمن الرحيم”، وأنه “الغفور الودود”، فإن قلوبهم تشتاق إليه، وتطمئن بذكره، وتتعلق به.

2. عرض قصص محبة الله للخلق

القرآن والسنة مليئان بالقصص التي تظهر عناية الله بعباده، مثل قصة يوسف عليه السلام، الذي رُمي في الجب، وسُجن، وتعرض للابتلاء، ثم في النهاية نُصر وعُفي وأُكرم، بفضل عناية الله وتدبيره. وقصة موسى عليه السلام، الذي كلمه الله وأيّده في وجه فرعون، رغم ضعفه الظاهري. وقصة المرأة الزانية التي سقت كلبًا فغفر الله لها. هذه القصص تؤسس لمحبة عميقة في النفوس، لأنها تُظهر لطف الله وعدله ومغفرته.

3. تقديم الدين بأسلوب المحبة لا الخوف وحده

كثير من الدعاة يركزون على التخويف من النار والعذاب، ويُهملون الحديث عن الجنة والنور والرضا والقرب من الله. لا شك أن الخوف ركن في العلاقة مع الله، لكنه ليس الأساس. قال الله تعالى: “نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم” [الحجر: 49-50]، فبدأ بالغفران والرحمة قبل ذكر العذاب.

4. القدوة العملية في محبة الله

لا يكفي أن نتحدث عن محبة الله نظريًا، بل لا بد أن نُظهرها عمليًا، في سلوكنا، وخشوعنا، وتواضعنا، وأخلاقنا، وصبرنا، وحلمنا، وابتسامتنا، ومعاملاتنا للناس. فإن الناس إذا رأوا أن من يحب الله يكون كريمًا، رحيمًا، رقيقًا، نقيًا، عفيفًا، خلوقًا، فإنهم يحبون الله من خلالنا.

5. تعليم الناس أن محبة الله أعظم من كل محبة

محبة الله ليست كأي محبة أخرى، فهي محبة تتجاوز حدود العقل والجسد، إلى عمق الروح. هي المحبة التي لا يعتريها نسيان، ولا يُطفئها البعد، ولا تنقصها النعم ولا تزيدها المصائب. قال النبي ﷺ: “ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما…” (رواه البخاري ومسلم). فالإيمان الحقيقي لا يكتمل إلا بهذه المحبة.

آثار محبة الله في النفس والمجتمع

محبة الله ليست حالة عاطفية مؤقتة، بل هي قوة مغيرة للواقع، تنعكس على السلوك، والعلاقات، والبناء الاجتماعي. وفيما يلي بعض آثارها البارزة:

تهذيب النفس

من أحب الله خاف أن يعصيه، واستحيا من مخالفته، وأحب طاعته، واستعذب المشقة في سبيله. فالمحب يُصبح زاهدًا في الدنيا، متطلعًا إلى الآخرة، متسامحًا مع الناس، صبورًا على الابتلاء.

الاستقامة على الطاعة

المحبة تدفع إلى الاستمرار في العبادة دون فتور، لأن المُحب لا يمل من مناجاة محبوبه، ولا يضيق ذرعًا بتكاليفه. فالصلاة، والصيام، والصدقة، والذكر، تُصبح مصادر أنس وسكينة، لا عبئًا ثقيلًا.

بناء مجتمع رحيم متراحم

إذا أحب الناس الله، أحبوا من خلقه ما خلق، فأحبوا بعضهم، وتراحموا فيما بينهم، وتجاوزوا عن الزلات، وعذروا الضعفاء، وأكرموا المحتاج، وتعاطفوا مع المرضى، وتعاونوا على البر والتقوى. فالمجتمع الذي تسكن فيه محبة الله هو مجتمع أخلاقي، إنساني، راقٍ.

الثقة والطمأنينة في مواجهة الحياة

محبة الله تمنح المؤمن ثقة لا تتزعزع مهما اشتدت الخطوب. فهو يعلم أن ربه أرحم به من أمه، وأقرب إليه من حبل الوريد، وأنه لا يضيع من تعلق به. فيعيش المؤمن مطمئنًا، متفائلًا، راضيًا، مهما واجه من ابتلاءات.

جدول يوضح الفرق بين المحبة الصادقة لله والمحبة المزعومة

تربية الأبناء على محبة الله

من واجب الآباء والمربين أن يُربوا أبناءهم على محبة الله منذ الصغر. لا ينبغي أن يُقدَّم الله لهم على أنه المنتقم فقط، أو المعاقب، بل يجب أن يُعرّفوا الله بأنه الرحيم، الذي يفرح بتوبتهم، ويستجيب لدعائهم، ويحفظهم ويرزقهم ويهديهم.

وسائل التربية على محبة الله:

• الحديث عن نعم الله: كالعين، والهواء، والماء، والصحة، والدفء، والوالدين، والأمان.

• تعليمهم الشكر لله: على كل نعمة، وربط النعم بالله لا بالمصادفة.

• تشجيعهم على الدعاء: ليشعروا بقرب الله منهم، وأنه يسمعهم.

• قراءة القصص القرآنية: بأسلوب يناسب أعمارهم، تبرز فيها عناية الله بالأنبياء والمصلحين.

الخاتمة

تحبيب الناس في الله عمل عظيم، يتجاوز حدود الخطاب الدعوي التقليدي، إلى بناء علاقة روحية عميقة بين الخالق وعباده. إن من يتذوق حلاوة محبة الله لا يمكن أن يستبدلها بشيء، ولا أن يستغني عنها في يومه. وإن المجتمعات التي تسودها محبة الله هي مجتمعات نقية، راقية، متماسكة. فليكن هدف كل داعية ومربٍ ومؤمن أن يكون سببًا في هذا الحب، وأن يربط الناس بالله، فيعرفونه، فيحبونه، فيعبدونه، فيسعدون في الدنيا والآخرة.

المصادر:

• ابن القيم، “مدارج السالكين”.

• صحيح البخاري وصحيح مسلم.