جوزيف ستالين: السياسي السوفياتي الذي غيّر مجرى التاريخ

يُعد جوزيف ستالين أحد أبرز القادة السياسيين في القرن العشرين وأكثرهم إثارة للجدل، إذ ارتبط اسمه بتحولات كبرى في التاريخ السياسي والاقتصادي والعسكري للاتحاد السوفياتي والعالم بأسره. قاد بلاده في فترة عصيبة تميزت بالحروب والمجاعات والتغيرات الجذرية في البنية الاجتماعية، وتمكن من تحويل الاتحاد السوفياتي من دولة زراعية متخلفة إلى قوة صناعية وعسكرية عظمى. ومع ذلك، ارتبط حكمه بالاستبداد والقمع الشديد، حيث شهدت فترته حملات تطهير سياسي واسعة ومجاعات كارثية ومجازر جماعية راح ضحيتها الملايين. يتناول هذا المقال سيرة جوزيف ستالين بالتفصيل، متتبعًا نشأته، صعوده إلى السلطة، سياساته الداخلية والخارجية، دوره في الحرب العالمية الثانية، وأثره العميق على الاتحاد السوفياتي والعالم.

النشأة والتكوين الأيديولوجي

وُلد جوزيف ستالين في 18 ديسمبر 1878 بمدينة غوري في جورجيا، إحدى جمهوريات الإمبراطورية الروسية آنذاك، وكان اسمه عند الولادة “يوسف فيساريونوفيتش جوغاشفيلي”. نشأ في أسرة فقيرة، وكان والده يعمل إسكافيًا ثم أصبح مدمنًا على الكحول، ما أدى إلى اضطراب في حياته الأسرية. والدته، كيكه جيلازوفيلي، كانت امرأة متدينة ومصرة على تعليم ابنها رغم الصعوبات الاقتصادية، مما دفعها لإرساله إلى مدرسة كنسية محلية ثم إلى معهد تفليس اللاهوتي.

رغم تلقيه التعليم الديني، تأثر ستالين بشدة بالفكر الثوري الماركسي وانتسب إلى الحركات الاشتراكية السرية. سرعان ما جذبته أفكار فلاديمير لينين حول الاشتراكية الثورية، مما أدى إلى طرده من المعهد اللاهوتي بسبب نشاطاته السياسية. انضم بعد ذلك إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلاشفة)، وشارك في أنشطة ثورية عدة تضمنت الترويج للدعاية المناهضة للقيصرية، وتنظيم الإضرابات، بل وقيادة عمليات سرقة لتمويل الحزب.

الصعود إلى السلطة

عقب ثورة أكتوبر 1917، ساهم ستالين في ترسيخ الحكم البلشفي إلى جانب لينين وتروتسكي وقادة آخرين. ورغم أنه لم يكن شخصية بارزة آنذاك، فقد استطاع بمرور الوقت تعزيز نفوذه داخل الحزب بفضل دهائه السياسي وقدرته على المناورة بين التيارات المختلفة. شغل منصب مفوض شؤون القوميات ثم أصبح في عام 1922 الأمين العام للحزب الشيوعي، وهو المنصب الذي مكّنه من بناء شبكة ولاءات واسعة داخل مؤسسات الحزب والدولة.

بعد وفاة لينين في 1924، اندلع صراع داخلي على قيادة الحزب، وبرز ستالين تدريجيًا كأبرز المتنافسين. استغل وصية لينين التي انتقدت طموحه وسلوكياته، لكنه نجح في تحييد خصومه واحدًا تلو الآخر، خاصة تروتسكي الذي تم نفيه لاحقًا، ثم اغتياله في المكسيك عام 1940. بحلول أواخر العشرينات، كان ستالين قد أصبح الزعيم الفعلي للاتحاد السوفياتي، ممسكًا بكل مقاليد السلطة السياسية والعسكرية.

السياسات الاقتصادية والاجتماعية

أطلق ستالين سلسلة من الخطط الخمسية ابتداءً من عام 1928 بهدف تحويل الاتحاد السوفياتي إلى قوة صناعية متقدمة. كانت هذه السياسات تعتمد على التصنيع المكثف، وتأميم الاقتصاد، وت collectivization أي تحويل الزراعة من نظام الملكيات الفردية إلى نظام المزارع الجماعية.

الجدول: المقارنة بين المؤشرات الاقتصادية قبل وبعد أول خطة خمسية

المصدر: تاريخ الاقتصاد السوفياتي (R. W. Davies, 1989)

أدت هذه السياسات إلى تطورات صناعية كبيرة، لكنها صاحبها كوارث اجتماعية واقتصادية. فسياسة “التجميع القسري للأراضي الزراعية” تسببت في انهيار الزراعة، ما أدى إلى مجاعة مدمرة في أوكرانيا بين عامي 1932 و1933، عُرفت باسم “الهولودومور”، راح ضحيتها ملايين الأشخاص. كما تسببت هذه السياسة في تدمير طبقة الفلاحين المستقلين المعروفة باسم “الكولاك”، حيث تم نفي أو إعدام أعداد كبيرة منهم.

القمع السياسي والتطهير العظيم

أصبح النظام السوفياتي تحت حكم ستالين من أكثر الأنظمة قمعًا في التاريخ الحديث. ففي أواخر الثلاثينات، شن حملة تطهير سياسي عُرفت باسم “الرعب الكبير” أو “التطهير العظيم”، حيث أُعدم أو سُجن مئات الآلاف من أعضاء الحزب، والجيش، والمثقفين، والمواطنين العاديين، بتهم غالبًا ما كانت ملفقة.

أُنشئت شبكة ضخمة من معسكرات العمل القسري تُعرف باسم “الغولاغ”، حيث تم إرسال ملايين الأشخاص للعمل في ظروف قاسية تؤدي إلى الموت البطيء. كان جهاز الشرطة السرية “إن كا في دي” هو الأداة الرئيسية لتنفيذ عمليات التطهير والاعتقال، ونشر الخوف في أوساط الشعب.

الدور في الحرب العالمية الثانية

مثلت الحرب العالمية الثانية مرحلة حاسمة في مسيرة ستالين، حيث لعب دورًا مركزيًا في مقاومة الغزو النازي وفي إعادة رسم خريطة أوروبا. في البداية، وقّع ستالين معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا النازية في عام 1939، عُرفت باسم “ميثاق مولوتوف–ريبنتروب”، تضمنت بنودًا سرية لتقاسم بولندا وأوروبا الشرقية.

إلا أن هتلر خرق الاتفاقية بغزوه الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941 (عملية بربروسا)، مما أجبر ستالين على الانضمام إلى الحلفاء. قاد ستالين بلاده خلال “الحرب الوطنية العظمى”، وتمكن الجيش الأحمر من تحقيق انتصارات كبرى مثل معركة ستالينغراد، التي كانت نقطة التحول في الحرب على الجبهة الشرقية.

بنهاية الحرب، أصبح الاتحاد السوفياتي قوة عظمى واحتل أراضٍ واسعة في أوروبا الشرقية، ما مهّد لبداية الحرب الباردة. شارك ستالين في مؤتمرات دولية كبرى مثل يالطا وبوتسدام، حيث كان له دور محوري في إعادة تشكيل النظام العالمي بعد الحرب.

السياسة الخارجية بعد الحرب

في أعقاب الحرب، فرض ستالين هيمنة الاتحاد السوفياتي على دول أوروبا الشرقية، مما أدى إلى نشوء الكتلة الشرقية التي تبنّت الأنظمة الاشتراكية تحت إشراف موسكو. دعم الأحزاب الشيوعية في الصين وكوريا وفيتنام، ما ساهم في انتشار النفوذ السوفياتي عالميًا.

بدأت الحرب الباردة فعليًا بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وشهدت العلاقات بين الجانبين توترًا دائمًا تخللته أزمات كبرى مثل حصار برلين عام 1948، وتأسيس حلف وارسو.

الشخصية والسمات القيادية

تميز ستالين بشخصية معقدة تجمع بين البراغماتية السياسية والقسوة الشديدة، وكان بارعًا في استخدام وسائل الإعلام والدعاية لبناء هالة من القداسة حوله. نُصبت له التماثيل وأُطلقت باسمه المدن والمؤسسات، وتم الترويج لفكرة “القائد المعصوم” في الثقافة السوفياتية.

ورغم فظائع حكمه، حافظ ستالين على دعم واسع في أوساط الشعب السوفياتي، خاصة بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية وتحديثه الاقتصاد، وظهر ذلك جليًا بعد وفاته، حيث عمّ الحزن والحداد البلاد.

الوفاة والإرث التاريخي

توفي جوزيف ستالين في 5 مارس 1953 إثر نزيف دماغي، ودفن في البداية في ضريح لينين، قبل أن يُنقل جثمانه لاحقًا خلال عملية إزالة الستالينية إلى مقبرة الكرملين. خلف وفاته جدلاً واسعًا داخل الحزب حول السياسات القمعية التي انتهجها، وأطلق خليفته نيكيتا خروتشوف حملة انتقاد علني له في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1956، واصفًا فترة حكمه بأنها مليئة بالاستبداد والظلم.

رغم الإدانة الرسمية له بعد وفاته، لا يزال إرث ستالين محل انقسام واسع بين من يرى فيه قائداً عظيماً أنقذ الاتحاد السوفياتي وطوّره، وبين من يعتبره طاغية دمويًا تسببت سياساته في مقتل الملايين.

الخلاصة

جوزيف ستالين شخصية محورية في التاريخ السياسي المعاصر، لعب دورًا حاسمًا في تشكيل ملامح القرن العشرين من خلال قيادته الصارمة للاتحاد السوفياتي. مثّل نموذجا فريدا من التداخل بين الطموح السياسي والديكتاتورية القمعية، وساهم في صناعة القوة السوفياتية التي واجهت الغرب لعقود. وقد كان تأثيره عميقًا ومتشعبًا شمل المجالات العسكرية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، ولا تزال دراسات سيرته وتحليل سياساته موضوعًا حيويًا في علم التاريخ والسياسة حتى اليوم.

المراجع:

1. Robert Service, Stalin: A Biography, Harvard University Press, 2004.

2. R. W. Davies, The Industrialisation of Soviet Russia, Vol. 1-5, Palgrave Macmillan, 1989.