أول رئيس لمصر: جمال عبد الناصر
مقدمة تاريخية
في قلب التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها مصر في منتصف القرن العشرين، كان من المقرر أن يظهر شخص له تأثير عميق في تاريخ البلاد والمنطقة العربية بأسرها. هذا الشخص هو جمال عبد الناصر، الذي أصبح أول رئيس لجمهورية مصر العربية بعد ثورة 23 يوليو 1952. لم تكن ثورة يوليو مجرد انقلاب عسكري بل كانت بداية لفترة جديدة في تاريخ مصر، تميزت بالعديد من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي استهدفت إعادة تشكيل الدولة والمجتمع في إطار جديد.
تسهم دراسة حياة جمال عبد الناصر في فهم مسار مصر الحديث، بداية من انقلاب 1952 وصولاً إلى السياسات التي تبناها على المستوى الداخلي والخارجي. وبالتالي، فإن فهم هذه المرحلة يحتاج إلى استعراض شامل لتفاصيل حياته، بداية من نشأته، مرورا بمشاركته في ثورة يوليو 1952، وصولاً إلى فترة رئاسته التي امتدت حتى وفاته في 1970.
نشأة جمال عبد الناصر
ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918 في حي باكوس في مدينة الإسكندرية. وُلد في أسرة متواضعة، حيث كان والده، عبد الناصر حسين، موظفًا حكوميًا، وكانت والدته، فاطمة الزهراء، من أسرة صعيدية. هذه البيئة البسيطة التي نشأ فيها عبد الناصر ستلعب دورًا كبيرًا في تشكيل شخصيته، وخصوصًا في التأثر بالطبقات الشعبية والعمل على تحسين أوضاعهم.
كانت السنوات الأولى من حياة عبد الناصر مليئة بالتحديات، حيث انتقل مع أسرته إلى القاهرة بعد أن حصل والده على عمل في العاصمة. التحق عبد الناصر بالمدرسة الابتدائية في القاهرة، وفي وقت لاحق التحق بالمدرسة الثانوية العسكرية في مدينة “المدرسة الحربية”. منذ أن كان في مرحلة الشباب، كان عبد الناصر مهتمًا بالقضايا الوطنية والسياسية، وهو ما دفعه إلى الانضمام إلى الحركة الوطنية المصرية خلال فترة شبابه.
التحاقه بالجيش ومشاركته في الحركات الوطنية
بعد تخرجه من الكلية الحربية في عام 1938، بدأ عبد الناصر خدمته العسكرية في الجيش المصري. خلال سنواته في الجيش، بدأ ناصر بتطوير وعيه السياسي، متأثرًا بالأوضاع الداخلية في مصر وتدهور الأوضاع السياسية بعد الاحتلال البريطاني. كان له دور كبير في تأسيس “حركة الضباط الأحرار” في عام 1949، وهي مجموعة من الضباط الشباب الذين كانوا ينادون بتغيير النظام السياسي في البلاد، بعيدًا عن سيطرة الملكية والنفوذ البريطاني.
كان الهدف الأساسي لهذه الحركة هو التخلص من الفساد الذي كانت تعاني منه الحكومة المصرية آنذاك، فضلاً عن استرداد الاستقلال الحقيقي لمصر من الاحتلال البريطاني. وُجدت ضغوط قوية على الملك فاروق، ملك مصر، في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، مما ساعد على تغذية رغبة التغيير في المجتمع العسكري.
ثورة 23 يوليو 1952
في 23 يوليو 1952، وقع الحدث الذي سيغير مجرى تاريخ مصر. في تلك الليلة، قاد عبد الناصر ثورة عسكرية نجحت في الإطاحة بنظام الملك فاروق. كانت الثورة تهدف إلى إنهاء حكم الملكية في مصر، حيث كانت البلاد تعاني من فساد حكومي واستغلال اقتصادي، إضافة إلى النفوذ البريطاني الذي كان له تأثير كبير في السياسات المصرية.
القيادة العسكرية لحركة الضباط الأحرار كانت منظمة بعناية، رغم أنه في البداية لم يكن هناك اتفاق واضح على من سيقود البلاد بعد الإطاحة بالنظام الملكي. إلا أن عبد الناصر برز في هذه اللحظة كقائد قوي وجاذب للثقة الشعبية، بفضل شخصيته الكاريزمية واهتمامه بالقضايا الوطنية. بدأت الأمور تتضح عندما تولى اللواء محمد نجيب قيادة المجلس العسكري الذي تولى الحكم بعد الثورة، فيما حصل جمال عبد الناصر على منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية.
تأسيس الجمهورية والتحولات السياسية
لم تقتصر ثورة 23 يوليو على الإطاحة بالملك فاروق فقط، بل كانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر. في عام 1953، تم إلغاء النظام الملكي، وتم الإعلان عن قيام “الجمهورية المصرية”. ومع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن عبد الناصر كان الشخصية الرئيسية في النظام الجديد. في عام 1954، وبعد تزايد الدعم الشعبي له، قرر عبد الناصر تولي منصب رئيس الجمهورية، حيث تم انتخابه بشكل رسمي في 23 يونيو 1956، ليصبح بذلك أول رئيس جمهورية في تاريخ مصر.
فترة حكم جمال عبد الناصر
تعد فترة حكم جمال عبد الناصر واحدة من أكثر الفترات تأثيرًا في تاريخ مصر. كان ناصر يمتلك رؤية واضحة لتحويل مصر إلى دولة ذات سيادة وطنية، وقوة إقليمية، وطموحات على الصعيدين العربي والدولي. ومن أهم إنجازات حكمه:
-
التأميم الاقتصادي:
في عام 1956، أعلن جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، وهو قرار أثار جدلاً كبيرًا في المجتمع الدولي. القرار كان بمثابة تحدٍ للنفوذ البريطاني والفرنسي، وحقق عبد الناصر انتصارًا سياسيًا كبيرًا، حيث حظي بدعم شعبي واسع داخل مصر والعالم العربي. كما ساهمت هذه الخطوة في تمويل مشروعات كبيرة مثل بناء السد العالي. -
مشروع السد العالي:
كان بناء السد العالي في أسوان واحدًا من أبرز المشاريع التي أطلقها عبد الناصر. كان هذا المشروع ضخمًا، وهدف إلى حماية الأراضي الزراعية من الفيضانات، وزيادة المساحات الزراعية عبر استصلاح الأراضي، وتوفير الكهرباء. وقد تم تمويل بناء السد عن طريق المساعدة السوفيتية بعد أن تم رفض تمويل المشروع من قبل بريطانيا والولايات المتحدة. -
السياسة الاشتراكية:
اتبع عبد الناصر سياسة اقتصادية اشتراكية، حيث قام بتوزيع الأراضي على الفلاحين، وزيادة دور الدولة في الاقتصاد. تم تطبيق قوانين التأميم على العديد من الصناعات الكبرى، مثل صناعة النسيج والنفط والأسمنت، مما جعل الدولة تتحكم بشكل أكبر في الاقتصاد. -
القومية العربية:
كانت القومية العربية إحدى الركائز الرئيسية للسياسة الخارجية لعبد الناصر. سعى إلى إقامة اتحاد عربي شامل، حيث كانت أفكاره تتمحور حول الوحدة العربية. هذه السياسة وصلت ذروتها في عام 1958 بتأسيس “جمهورية الوحدة” مع سوريا، لكنها لم تدم طويلاً بسبب خلافات داخلية. -
مواقف ضد الاستعمار:
كان عبد الناصر من أبرز المناهضين للاستعمار الغربي في المنطقة. كان له دور بارز في حركة عدم الانحياز، وكان يساند القضايا التحررية في أفريقيا وآسيا، مثل دعم الثوار الجزائريين في حربهم ضد الاستعمار الفرنسي.
التحديات والضغوط الخارجية
لم تخلُ فترة حكم جمال عبد الناصر من التحديات. فقد واجه العديد من الأزمات الخارجية، بما في ذلك العدوان الثلاثي (1956) من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بسبب تأميم قناة السويس. كما كانت هناك الضغوط الأمريكية والغربية على مصر بسبب توجهاتها الاشتراكية وتحالفاتها مع الاتحاد السوفيتي. على الرغم من هذه التحديات، استطاع عبد الناصر أن يحافظ على وحدة مصر ويعزز من موقفها الإقليمي.
الوفاة والإرث
توفي جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 نتيجة لأزمة قلبية مفاجئة. وقد خلف إرثًا كبيرًا في مصر والعالم العربي. وعلى الرغم من تباين الآراء حول سياساته، يظل عبد الناصر رمزًا للتحول في تاريخ مصر المعاصر، وأحد الشخصيات المؤثرة في العالم العربي.
