ثلاث مهلكات تهدد الإنسان

شرح حديث: (ثلاث مهلكات؛ شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)

الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه”، هو من الأحاديث العظيمة التي تضمنت تشخيصًا دقيقًا لأخطر الأمراض النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى هلاك الإنسان في دينه ودنياه. وقد جمع الحديث بين ثلاث خصال مهلكة، كل واحدة منها كافية لإفساد القلب، وتخريب العلاقة بين العبد وربه، وتدمير العلاقات بين الناس إن لم يُتعامل معها بحزم ووعي.

أولًا: مفهوم الحديث ومصدره

هذا الحديث ورد في عدة كتب من كتب السنن، ومنها رواية الطبراني والحاكم وغيرهما، وصححه بعض العلماء كالألباني. ويصنف من الأحاديث الجامعة التي تشمل مبادئ أخلاقية وروحية مهمة للغاية، وقد تضمن التحذير من ثلاث صفات إن استحكمت بالإنسان أدت إلى هلاكه. والمراد بالهلاك هنا الهلاك العام الذي يشمل الهلاك الدنيوي لما تسببه هذه الصفات من فساد في المعاملات والعلاقات، والهلاك الأخروي لما تفضي إليه من معاصٍ وكبائر تقود إلى غضب الله.

ثانيًا: الشح المطاع

تعريف الشح

الشح لغةً هو: شدة الحرص على المال مع البخل بما يجب منه، وقد يزيد عن ذلك ليشمل كل مظاهر التقتير والطمع والأنانية. أما في الاصطلاح الشرعي، فهو: التعلق المفرط بالأموال والمصالح الشخصية، مع منع الحقوق الواجبة منها سواء كانت زكاة أو صدقة أو نفقة واجبة.

وصفه بـ”المطاع”

إضافة وصف “المطاع” في الحديث لها دلالة مهمة، إذ إن الإنسان قد يكون شحيحًا، لكن لا يطيع شحه، فيجاهد نفسه ويغلبها، ويدفع الحقوق إلى أصحابها، ويكبح جماح طمعه. أما إذا أطاع شحه واتبع أهواءه في منع الحقوق وظلم الآخرين والحرص الشديد على جمع المال من أي طريق، فإنه بذلك يستسلم لأحد أخطر المهلكات.

وقد قال الله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]، فالمفلح هو من كبح شح نفسه ولم يطعه. فالشح من أعظم صفات النفس الأمارة بالسوء، لأنه يجمع بين البخل والحرص، ويؤدي إلى التعدي على الآخرين والتقاعس عن أداء الحقوق.

آثار الشح المطاع

• ظلم الناس في الحقوق: كمنع الميراث، والتلاعب في العقود، وأكل أموال الناس بالباطل.

• القطيعة والبغضاء: الشح يُفسد العلاقات الاجتماعية، لأنه يؤدي إلى الأنانية واحتقار الآخرين.

• هلاك المجتمعات: المجتمعات التي يسود فيها الشح المطاع تُبنى على التنافس المادي وتفقد روح التكافل والتعاون.

ثالثًا: الهوى المتبع

مفهوم الهوى

الهوى هو ميل النفس إلى ما تشتهيه وتميل إليه، سواء وافق الحق أو خالفه. والنفس بطبيعتها تميل إلى اللذة وتكره المشقة، ولهذا كان اتباع الهوى من أخطر المزالق. وقد ورد في القرآن الكريم ذم اتباع الهوى في مواضع كثيرة، قال الله تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص:26].

متى يكون الهوى مهلكًا؟

ليس المقصود بالحديث أن كل هوى مهلك، فالهوى إذا وافق الشرع لم يكن مذمومًا، لكن المهلك هو الهوى الذي يُتبع ويُقدّم على شرع الله. حينما يصبح معيار الإنسان في التصرفات هو ما تهواه نفسه لا ما أمر الله به، حينئذٍ يقع في المهلكة.

وما أكثر ما أُهلك أقوام باتباع الأهواء، في الأفكار، والاعتقادات، والسلوك، والعلاقات، حتى صار الهوى حاكمًا على عقول الناس وموجهًا لسلوكهم، وهذا من أخطر ما يُبتلى به الإنسان.

صور اتباع الهوى

• في العقيدة: كمن يتبع معتقدات مخالفة للحق ويُقدّم رأيه على النصوص الشرعية.

• في الشهوات: مثل الانغماس في المحرمات من الزنا، وشرب الخمر، والتبرج، والتفلت الأخلاقي.

• في الأهواء السياسية والاجتماعية: كمن يناصر الباطل من أجل العصبية أو المصلحة الشخصية، لا من أجل الحق.

آثار الهوى المتبع

• الضلال والانحراف عن الحق.

• ضعف الإرادة أمام الشهوات.

• فساد الدين والدنيا.

• عدم القبول بالنصيحة أو التوجيه، لأن الهوى يجعل الإنسان يرفض كل ما يخالفه.

رابعًا: إعجاب المرء بنفسه

ما هو الإعجاب بالنفس؟

هو أن يرى الإنسان نفسه فوق غيره، ويستحسن أقواله وأفعاله دون وجه حق، ويعتقد أنه الأفضل والأكمل. وهو مزيج بين الغرور والتكبر والجهل بحقيقة النفس الإنسانية.

الفرق بين الإعجاب والثقة

الثقة بالنفس مطلوبة إذا كانت مبنية على وعي بقدرات الإنسان وإدراك لنعم الله عليه، لكنها لا تصل إلى درجة التكبر أو احتقار الآخرين. أما الإعجاب بالنفس فيقود إلى العجب، والعجب من المهلكات لأنه يجعل الإنسان يغفل عن عيوبه، ويتجاهل نصائح غيره، ويظن أنه فوق الخطأ.

صور من إعجاب النفس

• التمادي في الخطأ دون مراجعة.

• رفض النصح والتوجيه.

• احتقار الآخرين وتقليل شأنهم.

• نسبة النجاح والفضل إلى النفس دون شكر لله.

آثار الإعجاب بالنفس

• يُفقد الإنسان التواضع، وهو من أعظم صفات المؤمن.

• يمنع من التعلم والتطور، لأن المعجب بنفسه يظن أنه لا يحتاج إلى مراجعة أو تصحيح.

• يؤدي إلى فساد العلاقات، لأن الآخرين ينفرون من المتكبر المغرور.

• قد يقود إلى الكفر في أسوأ صوره، كما حصل مع إبليس حينما قال: {أنا خير منه}.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين المهلكات الثلاث من حيث الصفات والنتائج

خامسًا: العلاقة بين المهلكات الثلاث

على الرغم من أن هذه المهلكات تبدو مختلفة في ظاهرها، إلا أنها في حقيقتها مترابطة، بل يمكن أن يجرّ أحدها الآخر:

• الشح المطاع يجعل الإنسان أنانيًا، وهذه الأنانية تدفعه إلى اتباع هواه لتبرير سلوكه، ومن ثم يشعر بالإعجاب بنفسه لأنه يظن أنه أذكى من غيره في تأمين مصلحته.

• اتباع الهوى يُغلف للإنسان أخطاءه بغلاف من المنطق الزائف، مما يدفعه إلى الإعجاب برأيه وعدم قبول نقد الآخرين.

• الإعجاب بالنفس يجعله يرى شحه واتباعه للهوى أمرًا مشروعًا بل مميزًا، فيكرّس بذلك مهلكته الروحية والأخلاقية.

سادسًا: علاج المهلكات الثلاث

العلاج الشرعي لهذه المهلكات يكون عبر تزكية النفس وتربيتها على أسس الشريعة، ومن أهم الوسائل:

• الإيمان الصادق: الذي يربط الإنسان بالله، فيدفعه للإنفاق، وكبح الهوى، وتطهير النفس من العجب.

• الصحبة الصالحة: فرفقة الصالحين تذكّر الإنسان بعيوبه وتحذره من الوقوع في المهلكات.

• كثرة الذكر والدعاء: لأن الذكر يُرقق القلب ويجعله متواضعًا، والدعاء فيه استكانة وطلب للمعونة.

• طلب العلم الشرعي: فالعلم يضيء طريق الإنسان، ويكشف له حيل النفس والهوى.

• الانشغال بمحاسبة النفس: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”.

• قراءة سِيَر الصالحين: فهم نماذج حقيقية في مقاومة هذه المهلكات، وكلما قرأ المسلم عن تواضعهم وزهدهم، زاد حذره من هذه الصفات.

سابعًا: أثر المهلكات الثلاث على الأمة

لا تتوقف خطورة هذه الصفات عند حدود الفرد، بل تمتد آثارها لتصيب الأمة كلها. أمة يغلب عليها الشح، ويتحكم فيها الهوى، ويعجب أبناؤها بأنفسهم، هي أمة معرضة للفرقة، وللانحراف عن منهج الله، وللخلافات التي تقود إلى الفشل كما قال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.

لذلك جاء هذا الحديث بمثابة جرس إنذار للأمة لتعود إلى صفاء الروح، ونقاء النفس، والانضباط السلوكي، فلا تنقاد للمهلكات بل تجاهدها، وتبني مجتمعاتها على أسس من الرحمة، والتواضع، والانضباط بالشرع.

المصادر:

1. ابن حجر الهيتمي، الزواجر عن اقتراف الكبائر.

2. الإمام النووي، رياض الصالحين.