وسائل الأسرة لتنمية علاقة سعيدة بالكتب

تمثل القراءة حجر الزاوية في تكوين الفكر الإنساني، وهي المفتاح الأول لاكتساب المعرفة وتنمية الوعي والخيال لدى الأفراد منذ الطفولة. ولأن الأسرة هي الحاضنة الأولى لنمو الطفل وتشكيل شخصيته، فإن دورها في ترسيخ عادة القراءة وتكوين علاقة إيجابية وسعيدة بين الطفل والكتاب لا يمكن الاستهانة به. تتطلب هذه العملية تضافر الجهود واستراتيجيات متكاملة تبدأ منذ سنوات الطفل الأولى، وتمتد لتصبح نمط حياة، ينعكس على فكره وسلوكه ومستقبله.

أهمية العلاقة السعيدة بالكتب في بناء الشخصية

إن تنمية علاقة إيجابية وسعيدة مع الكتب لا تعني فقط تعليم الطفل القراءة أو دفعه لحفظ المعلومات، بل هي مسار شعوري وعقلي متكامل، يهدف إلى جعل الكتاب رفيقًا ممتعًا، لا أداة تعليمية فحسب. فعندما يُنظر إلى القراءة بوصفها نشاطًا ممتعًا ومصدرًا للمتعة والتشويق، تصبح القراءة عادة ذاتية ومستدامة، وتُكسب الطفل أدوات التفكير النقدي، والخيال الخلاق، والتواصل الفعال، إلى جانب تعزيز التركيز والانضباط الذاتي.

أثبتت الدراسات النفسية والتربوية أن الأطفال الذين ينشأون في بيئة منزلية تحفزهم على القراءة هم أكثر قدرة على التحصيل الدراسي، وأكثر استعدادًا للابتكار وحل المشكلات، مقارنة بأقرانهم الذين لا يجدون دعماً أسرياً في هذا المجال. ومع ازدياد الإغراءات الرقمية التي تنافس الكتاب الورقي، أصبح لزامًا على الأسر أن تطور من وسائلها وتقنيات تعاملها مع هذا التحدي.

أولاً: توفير بيئة منزلية غنية بالكتب

تعتبر البيئة المادية عاملاً مؤثراً في تشكيل السلوك، لذا فإن توفير مكتبة منزلية، ولو صغيرة، تمثل خطوة أولى نحو غرس حب الكتب في نفس الطفل. ويجب أن تكون هذه المكتبة متنوعة وغنية، تشمل كتبًا مصورة وأخرى قصصية وموسوعات مصممة خصيصًا للأطفال حسب أعمارهم.

من المهم أيضًا وضع الكتب في أماكن ظاهرة وسهلة الوصول داخل المنزل، كتخصيص زاوية في غرفة الطفل تحتوي على رفوف ملونة وجذابة مليئة بالكتب، بحيث تصبح جزءًا من ديكور المنزل اليومي، وتكون في متناول اليد في كل الأوقات. كما يُفضل تجديد محتوى المكتبة بشكل دوري، لضمان استمرار التشويق والتجديد.

ثانيًا: القدوة القرائية داخل الأسرة

الأطفال يتعلمون من خلال الملاحظة والتقليد أكثر من التلقين، لذلك فإن وجود آباء وأمهات يقرؤون باستمرار أمام أطفالهم يشكل دافعًا داخليًا للاقتداء بهم. عندما يرى الطفل والديه مستغرقين في القراءة، سواء كانت صحيفة أو كتابًا أو حتى رواية، فإنه يدرك بشكل غير مباشر أن القراءة جزء من الحياة اليومية، وليست مفروضة كواجب دراسي.

إضافة إلى ذلك، يمكن إشراك الأطفال في أنشطة القراءة العائلية، كأن يتم تخصيص وقت أسبوعي للقراءة الجماعية، يتناوب فيه أفراد الأسرة على قراءة القصص أو مناقشة كتاب معين، مما يعزز مفهوم القراءة الجماعية ويحولها إلى تجربة عاطفية واجتماعية مشتركة.

ثالثًا: اختيار الكتب المناسبة لاهتمامات الطفل

لكي تنشأ علاقة سعيدة مع الكتب، يجب أن يكون محتواها متوافقًا مع ميول الطفل وفضوله الطبيعي. فالقراءة القسرية لكتب لا تتناسب مع مستوى الطفل أو لا تثير اهتمامه غالبًا ما تؤدي إلى نتائج عكسية، وتزرع في نفسه النفور من الكتاب.

ينبغي مراعاة الفئة العمرية، والمستوى اللغوي، وطبيعة الرسومات، والموضوعات المحببة لدى الطفل. فبعض الأطفال يحبون الحيوانات، وآخرون ينجذبون نحو الفضاء أو الأساطير أو المغامرات. الاستجابة لهذه الميول عند اختيار الكتب تُعدّ استثمارًا مهمًا لبناء جسر من المتعة بين الطفل والكتاب.

رابعًا: استخدام أسلوب القراءة التفاعلية

من الوسائل الفعالة في تنمية حب القراءة، اعتماد أسلوب القراءة التفاعلية، الذي يشجع الطفل على المشاركة أثناء القراءة. يمكن للوالدين التوقف عند مقاطع معينة وطلب الطفل وصف الصورة، أو تخمين نهاية القصة، أو التعبير عن رأيه في تصرفات الشخصيات. هذه الطريقة تجعل القراءة تجربة ديناميكية، لا مجرد تلقي سلبي للمحتوى.

القراءة التفاعلية تطور المهارات اللغوية والاجتماعية والتفكيرية، وتساعد الطفل على الانخراط الوجداني في النص. كما أنها تعزز قدرة الطفل على التعبير عن الذات وتوسيع مفرداته.

خامسًا: ربط القراءة بالأنشطة الممتعة

لتحويل العلاقة مع الكتاب إلى علاقة إيجابية، يمكن للأسرة ربط القراءة بنشاطات ترفيهية متنوعة. مثلاً، بعد قراءة قصة عن الحديقة، يمكن تنظيم زيارة إلى حديقة فعلية، أو بعد قصة عن الطبخ، يمكن تنفيذ وصفة مستوحاة من القصة مع الطفل. هذه الطريقة تحول القراءة من فعل نظري إلى تجربة حية تدمج الحواس، وتوسع مدارك الطفل.

كذلك، يمكن إقامة مسرحيات صغيرة تمثل القصص المقروءة، أو تشجيع الطفل على تمثيل الأدوار باستخدام الدمى، أو حتى رسم الشخصيات والأحداث. هذه الوسائل تعزز الإدراك البصري والحركي والخيالي.

سادسًا: الاحتفاء بالقراءة والقرّاء

من الأساليب التحفيزية الفعالة، تنظيم احتفالات صغيرة داخل الأسرة للاحتفاء بإنجازات الطفل القرائية، مثل إنهائه لعدد معين من الكتب، أو مشاركته في مسابقة قراءة. يمكن منح شهادات تقدير، أو تنظيم “يوم الكتاب المفضل”، حيث يشارك كل طفل بكتابه المفضل ويتحدث عنه أمام الأسرة.

كما يُمكن إعداد “بطاقة قارئ الأسرة”، يتم فيها تسجيل عدد الكتب التي قرأها الطفل، مما يعزز الشعور بالفخر والإنجاز الذاتي. كلما ارتبطت القراءة بمكافآت وجدانية ومعنوية، كلما ترسخت في لاوعي الطفل كفعل يستحق التكرار.

سابعًا: الاستفادة من التقنيات الحديثة في دعم حب القراءة

على الرغم من التحدي الكبير الذي تطرحه الأجهزة الذكية، فإنها يمكن أن تكون جزءًا من الحل إذا أحسن استخدامها. يمكن تحميل كتب إلكترونية مخصصة للأطفال، أو استخدام تطبيقات تفاعلية تجمع بين النص والصوت والصورة، مما يعزز الجذب البصري ويشجع الطفل على القراءة بشكل ذاتي.

كما يمكن للأسرة الاشتراك في برامج القراءة الرقمية، التي توفر مكتبات إلكترونية مصنفة حسب الأعمار والاهتمامات، وتقدم مكافآت رقمية عند إتمام مهام قرائية، مما يجعل القراءة أكثر انسجامًا مع نمط الحياة الرقمي للأطفال المعاصرين.

ثامنًا: زيارة المكتبات العامة ومعارض الكتب

تعد الزيارات المنتظمة إلى المكتبات العامة ومعارض الكتب من الوسائل المهمة لتنمية علاقة صحية وسعيدة مع الكتاب. هذه الزيارات توسع أفق الطفل، وتمنحه فرصة لاكتشاف كتب جديدة، والتعرف على قراء آخرين، والمشاركة في ورش العمل والأنشطة القرائية.

كما أن التجوال بين رفوف الكتب، واختيار العناوين بنفسه، يمنح الطفل إحساسًا بالاستقلالية ويزيد من حماسه للقراءة. يمكن للأسرة أن تجعل من زيارة المكتبة نشاطًا أسبوعيًا مشتركًا، وتوثق هذه اللحظات بصور أو تدوينات يومية.

تاسعًا: تجنب أساليب الضغط والإكراه

من أكثر الأخطاء شيوعًا لدى الأسر هي استخدام أسلوب الضغط أو العقاب لجعل الطفل يقرأ، ما يؤدي إلى ارتباط القراءة بمشاعر سلبية. يجب أن يدرك الوالدان أن بناء علاقة حب مع الكتاب يستغرق وقتًا، ويتطلب صبرًا وتشجيعًا مستمرًا.

بدلاً من فرض القراءة كعقوبة أو واجب منزلي، يجب تقديمها كخيار ممتع، وإتاحة البدائل، وتشجيع التدرج في المدة الزمنية والمحتوى، حتى تصبح جزءًا طبيعياً من الروتين اليومي للطفل.

عاشرًا: دمج القراءة في الحياة اليومية

لتحقيق أقصى استفادة، ينبغي دمج القراءة في تفاصيل الحياة اليومية، كقراءة الإشارات في الشارع، أو تعليم الطفل قراءة قوائم الطعام، أو إشراكه في قراءة وصفات الطبخ، أو رسائل البريد. كل هذه الأنشطة تخلق اتصالًا واقعيًا وحيويًا بين الطفل والكلمات المكتوبة.

بهذه الطريقة، لا تصبح القراءة نشاطًا منفصلًا عن الحياة، بل تتحول إلى جزء جوهري في التفكير والتواصل والتفاعل مع العالم.

جدول توضيحي: مراحل دعم الأسرة لحب الطفل للقراءة

الخاتمة

إن تنمية علاقة سعيدة بين الأطفال والكتب ليست رفاهية ثقافية، بل هي حاجة تربوية أساسية في بناء الأجيال الواعية والمثقفة. والأسرة هي اللبنة الأولى في هذا البناء، وعليها أن تستثمر في ترسيخ حب الكتب في نفوس أبنائها من خلال وسائل تربوية مرنة، متجددة، ومتنوعة. ومن خلال القدوة، والتشجيع، وتهيئة البيئة الداعمة، يمكن للأسرة أن تحول القراءة إلى أسلوب حياة، لا مجرد نشاط تعليمي عابر. فالطفل القارئ اليوم هو المواطن المفكر غدًا.

المراجع

1. منظمة اليونسكو. “تقرير محو الأمية والتنمية.” 2022.

2. الجمعية الأمريكية لأدب الأطفال (ALA). “دور الأسرة في تنمية عادة القراءة.” 2020.