تفسير سورة المجادلة

تفسير سورة المجادلة

سورة المجادلة هي السورة رقم 58 في ترتيب المصحف الشريف، وتتألف من 22 آية، نزلت في المدينة المنورة بعد الهجرة، وتحمل اسمها من قصة امرأة من صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تعاني من مشكلة اجتماعية خاصة وعرضتها على النبي، فأنزل الله تعالى هذه السورة لتبيان الأحكام المتعلقة بمشكلتها، وكذلك لتوضيح قواعد السلوك الاجتماعي والديني في بعض القضايا الخاصة.

مقدمة عن السورة ومكانتها

سورة المجادلة تعتبر من السور المدنية التي تتميز بوضوح التشريع والاهتمام بتنظيم العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، وخصوصًا في موضوعات الزواج والخصام والحوار. جاء نزول السورة بعد أن شكّت امرأة تُدعى خولة بنت ثعلبة في زوجها “أبي عامر الضمري” الذي قال لها قولا جائرًا يُعرف بـ”الظهار”، وهو أن ينعتها بقول يشبه طلاقها، مما أدى إلى وقوع نزاع بينهما. فجمعت المرأة أصدقاءها ثم ذهبت إلى النبي تشكو حالها، فأوحى الله بهذه السورة لتبيين الحكم الشرعي في هذه المسألة.

تتميز السورة بتقديمها مناقشة عميقة لقضايا العدالة والحق والظلم، كما تحمل تحذيرًا من الله لمن يخالف أوامر الله في المجادلة مع الآخرين، وتعزز أهمية احترام الأوامر الربانية في جميع العلاقات الاجتماعية.

تفسير الآيات

الآية الأولى: حكاية المرأة التي تجادلت مع النبي

“قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”

تبدأ السورة بالرد الإلهي على شكوى المرأة، حيث يؤكد الله أنه سمع كلامها وتظلمها، وأنه يسمع الحوار بين الزوجين، وهو بصير بما يجري بينهم. هذه الآية تؤكد على عدل الله ورحمته، وتبيّن أن الله لا يغفل عن أحوال عباده ولا يتجاهل مظالمهم مهما كانت صغيرة أو خاصة. كما تؤكد أن الله سميع لما في القلوب وأعمال العباد، وبصير بكل ما يظهر من الأقوال والأفعال.

الآيات الثانية والثالثة: تحريم “الظهار” وبيان حكمه

“الَّذِي يُظَاهِرُ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِ فَقَدْ ۡعَلَىٰهِ إِثْمُ ٱلظَّهَارِ وَٱلظَّهَارُ لَا يَكُونُ لَّهُۥ فِي ٱلْحَقِّ وَمَا هُم بِٱلظَّـٰهِرِينَ ۖ وَإِن يَتُوبُوا۟ يُصْلِحُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا”

“وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا۟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”

في هاتين الآيتين يحرّم الله تعالى ممارسة “الظهار”، وهي كلمة كان العرب في الجاهلية يستخدمونها كنوع من الطلاق الظاهري، حيث يقول الزوج لزوجته “أنت علي كظهر أمي” أي كحرمة أمّه، وهو في الحقيقة لا يطلقها لكنه يمنع نفسه منها كأنها محرمة عليه. هذه العبادة الموروثة من الجاهلية جعلها الإسلام محرمة لما فيها من ظلم وخداع للزوجة.

ويحدد الله عقوبة من مارس الظّہار ثم عاد عنه، وهي تحرير رقبة قبل أن يمس الزوج زوجته، وإن لم يستطع تحرير رقبة، فعليه صيام شهرين متتابعين ككفارة عن هذا الفعل. هذه الأحكام جاءت لتنظيم العلاقة الزوجية وإبطال العادات الجاهلية التي تؤذي الزوجة وتحرمها من حقوقها.

الآيات من الرابعة إلى الثامنة: تعليمات حول المجادلة وأحكام أخرى

الآيات التالية توسع الحديث لتشمل موضوعات المجادلة والخلافات بين المسلمين، وتشير إلى ضرورة احترام الحدود وعدم الخوض في الكلام الذي يسيء أو يجرح، وكذلك تحذر من التجسس على الآخرين والتدخل في شؤونهم بدون حق.

كما تؤكد هذه الآيات على أهمية تقوى الله في كل الأحوال، حيث أن الله عليم بكل ما يفعله الإنسان، وهو يعاقب الظالمين ويثيب المتقين.

الآيات التاسعة إلى الثانية عشر: توجيهات للمجتمع المسلم

تدعو هذه الآيات المسلمين إلى الحذر في علاقاتهم الاجتماعية، وخاصة في الحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التحدث بما يسبب إزعاجًا أو إضرارًا له، مع التذكير بأن الله هو الشاهد على كل قول وفعل.

كما تتحدث عن موقف المنافقين الذين يحاولون إفساد المجتمع من الداخل ويحث المؤمنين على الحذر منهم وعدم الوثوق بهم.

الآيات من الثالثة عشر إلى السادسة عشرة: ذكر صفات المنافقين وتحذيرهم

تصف هذه الآيات المنافقين بصفات تدل على فسادهم الداخلي، كالكذب والخداع والتظاهر بالإيمان مع الباطل في القلب. وتحذر من مسايرتهم لأنهم خطر على استقرار المجتمع المسلم.

الآيات من السابعة عشر إلى الثانية والعشرين: مدح المؤمنين الحقيقيين والختام

تنهي السورة بمدح المؤمنين الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويؤدون الصلوات، ويعطون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، وتعدهم برحمة الله وجناته.

كما تؤكد أن الله يمهل الكافرين، لكنه في النهاية لا يتركهم دون عقاب.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين “الظهار” وأنواع الطلاق الشرعية:

أهمية سورة المجادلة في التشريع الإسلامي والاجتماعي

سورة المجادلة ليست فقط نصًا قرآنيًا ينظم قضية محددة، بل هي دليل واضح على حرص الإسلام على وضع قواعد واضحة للحقوق والواجبات في العلاقات الزوجية والاجتماعية، مع المحافظة على كرامة الفرد، وخاصة المرأة التي كانت معرضة للظلم في الجاهلية.

تعمل السورة على تعزيز مبدأ العدالة، حيث لا يمكن لأي شخص أن يتجاوز حدود الشرع دون أن يتحمل نتيجة فعلته، كما تعزز من فكرة الرحمة الإلهية التي تفتح باب التوبة والعفو لمن يعود عن الخطأ.

كما تعتبر السورة مرآة حقيقية لتوازن الإسلام بين الرحمة والعدل، وبين التشريع والتنفيذ، وتوضح أن الإسلام جاء ليرتقي بالمجتمع ويمنع الظلم بأي صورة كانت.

الخلاصة

سورة المجادلة تحمل بين آياتها دروسًا قيمة في تنظيم العلاقات الاجتماعية، وخاصة الزواج، وتحديد الحقوق والواجبات، مع التركيز على العدالة والرحمة في التشريع الإسلامي. كما تبرز قدرة الإسلام على مواجهة العادات والتقاليد الجاهلية التي تضر بالمجتمع وتطعن في كرامة الأفراد، وتضع حدودًا واضحة لحقوق المرأة في المجتمع المسلم.

تعد هذه السورة من السور التي تبين عظمة التشريع الإسلامي وحرصه على حماية الحقوق الاجتماعية والأخلاقية، وتؤكد أن الحوار والعدل هما السبيل لتجاوز الخلافات والمجادلات في الحياة اليومية.

المراجع:

1. تفسير ابن كثير

2. تفسير الطبري

3. القرآن الكريم، سورة المجادلة

4. كتب الفقه الإسلامي المتعلقة بالأحوال الشخصية

بهذا الشكل تم تقديم تفسير مفصل لسورة المجادلة مع شرح سياقي لكل آية وأحكامها الشرعية، إضافة إلى دور السورة في إصلاح المجتمع الإسلامي وتنظيم العلاقات بين أفراده.