تفسير آيات إبراهيم 42-46

تفسير آيات من سورة إبراهيم (42–46): رؤية قرآنية للظلم والعدل الإلهي

تُعد سورة إبراهيم من السور المكية التي تناولت مواضيع عظيمة تتعلق بتوحيد الله، والبعث، وأهوال يوم القيامة، وتوجيهات للمجتمع الإنساني نحو العدالة والاستقامة. وفي الآيات من (42) إلى (46) تكشف السورة عن مشهد رهيب يتضمن تحذيرًا للظالمين، وتطمينًا للمظلومين، وتأكيدًا على عدالة الله التي لا تغيب، وإن تأخر تحققها في الزمن البشري المحدود. في هذه الآيات تتجلى المفاهيم الكبرى للعدل الإلهي، وحتمية الحساب، وانكشاف الزيف، وزوال ملك الجبابرة.

نص الآيات موضوع التفسير:

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‎﴿٤٢﴾‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‎﴿٤٣﴾‏ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ‎﴿٤٤﴾‏ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‎﴿٤٥﴾‏ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‎﴿٤٦﴾‏

أولاً: نفي الغفلة عن الله – الآية 42

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾

يفتتح هذا المقطع بإزالة وهم كبير قد يسيطر على بعض النفوس الضعيفة: أن الظالم حين يُمهل ولا يُؤخذ بذنبه في الحال، فإنما ذلك من غفلة عن فعله. وهنا تنفي الآية هذا الظن بشكل قاطع: لا تظننّ أبدًا أن الله غافل. إنه يرى ويسمع ويعلم، ولكن له سنن في تأجيل العقوبة لحكمةٍ بالغة.

المعنى هنا يتجاوز كونه مجرد تحذير للظالم، ليصبح أيضًا تسلية وتطمينًا للمظلوم، وللمصلحين الذين قد يشعرون أن الباطل يتمدد ويقوى دون ردع. لكنه امتداد مؤقت، تخطيط إلهي دقيق يتجاوز الأبعاد الزمنية التي اعتادها البشر.

ثانياً: تصوير مشهد يوم الحساب – الآية 43

﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾

الآية تصف حال الظالمين يوم القيامة، حين تنخلع قلوبهم من الرعب، وتفزع أبصارهم فلا ترمش من شدة الفزع، وتهرع أجسادهم كارهة نحو الموقف الرهيب، وأفئدتهم خاوية، فارغة من أي شعور ثابت، تضطرب وكأنها ريح عاصفة.

هذا المشهد فيه فزع جسدي ونفسي، ويجسد رعبًا داخليًا عظيمًا. فـ”مقنعي رؤوسهم” تعني أنهم يرفعون رؤوسهم إلى السماء في ذلة، و”مهطعين” تعني الإسراع مع النظر المذعور، بينما “أفئدتهم هواء” إشارة إلى فقدان التوازن الداخلي كمن أصيب بصدمة شلت حواسه ومشاعره.

ثالثاً: الندم بعد فوات الأوان – الآية 44

﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾

تأمر الآية النبي صلى الله عليه وسلم بتحذير الناس من هذا اليوم الذي سيأتيهم فيه العذاب، وهو أمر مستقبلي لا مفر منه. لكن الملفت في الآية هو مشهد الاعتراف والندم الذي يعيشه الظالمون: ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾.

هذا الطلب يكشف رغبة كاذبة في العودة إلى الدنيا، بعد أن أصبح الأمر مستحيلاً. هو ندم غير مُثمر، يُشبه بكاء العاجز بعد فوات الفرصة، وهو ما يصفه الله بأنه كان نتيجة لتكذيبهم السابق: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾.

هذه الآية تفضح الغرور البشري الذي يعيش في وهم الخلود والتمكن، ويرتكب المظالم دون اكتراث لمصيرٍ محتوم.

رابعاً: عبرة التاريخ الغائبة – الآية 45

﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾

تشير هذه الآية إلى أن كثيرًا من الناس مروا على آثار الظالمين السابقين، سكنوا أماكنهم، ورأوا ما حل بهم، وسمعوا القصص والعبر، لكنهم لم يتأثروا بها. لقد اتضح لهم مصير من سبقهم، ومع ذلك لم يرتدعوا، رغم أن الله ﴿ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ﴾.

إنها إشارة إلى بلادة القلوب، وغفلة العقول، حين لا تستفيد من دروس التاريخ. في هذا تأكيد على أن العبرة ليست بالمعاينة فقط، وإنما بالتدبر، واتعاظ القلوب.

خامساً: مكر الجبابرة لا يُجدي – الآية 46

﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾

هذه الآية تسلط الضوء على طبيعة الظالمين عبر العصور: التخطيط في الخفاء، حبك المؤامرات، بناء الأنظمة الاستبدادية، وقمع المصلحين. إلا أن الله يقرر حقيقة لا ريب فيها: أنه يعلم هذا المكر، ويمتلك القدرة على إبطاله في الوقت المناسب.

اللافت في الآية هو التعبير العظيم: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾، أي أن مكرهم شديد جدًا كأنه قادر على زحزحة الجبال، رمز الثبات، ولكنه رغم ذلك لن يفلح أمام إرادة الله.

المعاني المستخلصة من هذه الآيات

الدروس التطبيقية من هذه الآيات

1. التحذير من الظلم: تذكّر أن كل ظلم مسجل، وأن المهلة لا تعني نسيانًا إلهيًا، بل اختبارًا وعدالة مؤجلة.

2. صبر المظلوم: المقطع رسالة تسلية لكل مظلوم أن حقه لن يضيع عند الله، مهما طال الظلم أو عظم.

3. التوبة في الوقت المناسب: عدم تأجيل التوبة أو إرجاء الإيمان، لأن الندم بعد الموت لا يُجدي.

4. اتعاظ من التاريخ: التفاعل مع التاريخ لا يكون بالسكن في مساكن الظالمين فقط، بل بتأمل ما حدث لهم، واستيعاب العبر.

5. رفض الغرور والقوة الكاذبة: لا يغترّ الإنسان بمكره أو سلطانه، فحتى لو كان كافياً لإزاحة الجبال ظاهرياً، فإنه لن يصمد أمام مشيئة الله.

البعد البلاغي والبياني في الآيات

تتجلى في هذه الآيات صور بلاغية قوية تعمق التأثير النفسي والمعنوي:

• تشخيص الأبصار: استعارة تصويرية لحالة الهلع الشديد حيث تثبت الأبصار فلا تطرف.

• أفئدتهم هواء: تصوير فني لحالة الفراغ الداخلي الناتج عن الصدمة والرعب.

• تزول منه الجبال: تعبير عن شدة مكرهم، لكنها مبالغة يقصد بها إظهار الفشل الذريع لهذا المكر.

خاتمة تحليلية

إن الآيات (42–46) من سورة إبراهيم تمثل صورة متكاملة لمنظومة العدل الإلهي في الإسلام، حيث لا يغيب عن الله ظلمُ ظالم، ولا يُهمل أمر من طغى وتجبر، بل يؤخر لحكمة، ويؤكد أن العاقبة للمتقين. كما تكشف هذه الآيات العلاقة بين العمل والمصير، وتدعونا لإدراك أن النجاة لا تكون إلا باتباع دعوة الله ورسله في الوقت الذي يكون فيه الاختيار متاحًا.

فيها أيضًا تذكير بأن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو مرآة للسنن الإلهية التي تتكرر في كل عصر، وأن مكر البشر مهما تعقّد لا يمكن أن يغلب مشيئة الله.

المراجع:

• الطبري، تفسير جامع البيان.

• ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.