الفقر وخط الفقر: المفهوم والتحديد والأبعاد

مقدمة

يُعد الفقر من أبرز القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمعات على مر العصور، حيث يُشكل تحديًا كبيرًا أمام تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. الفقر ليس مجرد غياب المال فحسب، بل هو حالة متعددة الأبعاد تتعلق بالحرمان من الاحتياجات الأساسية التي تضمن للإنسان حياة كريمة، مثل الغذاء، المأوى، التعليم، الرعاية الصحية، والمشاركة الاجتماعية. وقد تطور مفهوم الفقر مع الزمن ليتجاوز التعريفات الكمية البسيطة المرتبطة بالدخل، إلى مقاربات أكثر شمولية تأخذ في الاعتبار نوعية الحياة وفرص المشاركة في المجتمع.

في هذا الإطار، يُعد مفهوم “خط الفقر” أداة مهمة لتحديد مستوى الفقر وقياسه على المستوى الفردي والجماعي. حيث يُستخدم خط الفقر كمعيار إحصائي يُحدد الحد الأدنى من الدخل الذي يحتاجه الشخص لتلبية احتياجاته الأساسية. يتغير هذا الخط من دولة لأخرى بناءً على الظروف الاقتصادية والمعيشية لكل مجتمع.

مفهوم الفقر

تعريف الفقر

الفقر هو حالة يعاني فيها الأفراد أو الأسر من نقص حاد في الموارد المادية والمالية، ما يؤدي إلى عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية اللازمة للحياة الكريمة. يشمل ذلك الغذاء، السكن، التعليم، الرعاية الصحية، والمياه النظيفة. لا يقتصر الفقر على نقص الدخل فقط، بل يشمل أيضًا محدودية الفرص والحقوق وعدم القدرة على المشاركة الفعالة في المجتمع.

في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، يُصنف الفقر إلى نوعين رئيسيين: الفقر المطلق والفقر النسبي. الفقر المطلق يُشير إلى حالة يكون فيها دخل الشخص أو الأسرة أقل من مستوى محدد ضروري لتلبية الحاجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة. أما الفقر النسبي، فهو الفقر الذي يُقاس بناءً على مقارنة مستوى معيشة الأفراد أو الأسر بمستوى المعيشة العام في المجتمع.

أبعاد الفقر

الفقر ليس ظاهرة أحادية البعد بل هو متعدد الأوجه، ويمكن تصنيفه وفق الأبعاد التالية:

• البعد الاقتصادي: ويتعلق بانخفاض أو غياب الدخل.

• البعد الاجتماعي: ويتصل بالتهميش وضعف فرص المشاركة الاجتماعية.

• البعد الصحي: ويتعلق بسوء التغذية وغياب الرعاية الصحية الملائمة.

• البعد التعليمي: ويرتبط بعدم القدرة على الحصول على التعليم المناسب.

• البعد البيئي: ويشمل ضعف البنية التحتية وغياب الخدمات الأساسية كالمياه الصالحة للشرب والصرف الصحي.

مفهوم خط الفقر

تعريف خط الفقر

خط الفقر هو مقياس اقتصادي واجتماعي يُحدد الحد الأدنى من الدخل الذي يحتاجه الفرد لتأمين حاجاته الأساسية للعيش بكرامة. يُعتبر الأشخاص الذين يعيشون تحت هذا الخط فقراء لأن دخولهم لا تكفي لتلبية أساسيات الحياة من غذاء وملبس ومسكن وخدمات ضرورية مثل الصحة والتعليم.

تُحدد منظمات دولية مثل البنك الدولي خطوط فقر عالمية بناءً على القدرة الشرائية للفرد، لكن كل دولة يمكن أن تُحدد خط الفقر لديها بناءً على سياقها الاقتصادي المحلي.

الأنواع الرئيسية لخط الفقر

1. خط الفقر المطلق

يُعرف بأنه المستوى الأدنى للدخل الذي يُمكّن الشخص من الحصول على الحد الأدنى من الحاجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء الكافي، المأوى الأساسي، والملابس. على الصعيد العالمي، يُحدد البنك الدولي خط الفقر المطلق عند 2.15 دولار أمريكي في اليوم (حسب أسعار 2017).

2. خط الفقر النسبي

يُقاس بالمقارنة مع مستويات المعيشة السائدة في المجتمع. على سبيل المثال، يتم تحديده كنسبة مئوية من متوسط الدخل الوطني، وغالبًا ما يُحدد عند 50% أو 60% من متوسط دخل الأسرة في الدولة.

3. خط الفقر الغذائي

هو الحد الأدنى من الإنفاق الضروري للحصول على الاحتياجات الغذائية اليومية فقط، دون احتساب الاحتياجات الأخرى مثل المسكن أو التعليم أو الصحة.

4. خط الفقر غير الغذائي

يأخذ في الاعتبار الاحتياجات غير الغذائية مثل الملابس والمسكن والصحة والنقل والتعليم.

أهمية تحديد خط الفقر

تحديد خط الفقر يُعد أداة حيوية لعدة أغراض منها:

• قياس حجم الفقر في المجتمع.

• تصميم السياسات الاجتماعية والاقتصادية المستهدفة للفئات الفقيرة.

• مراقبة أداء البرامج الحكومية في مكافحة الفقر.

• تقييم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الأفراد والمناطق.

• توجيه المساعدات الدولية إلى الدول أو الفئات الأكثر احتياجًا.

الفرق بين الفقر وخط الفقر

من الضروري التمييز بين الفقر كمفهوم عام وخط الفقر كمقياس تقني. الفقر يُمثل الظاهرة الاجتماعية التي تصف واقع الحرمان ونقص الموارد، بينما خط الفقر يُمثل أداة كمية تساعد في تحديد من يُعتبر فقيرًا بناءً على معايير محددة. بمعنى أن خط الفقر هو الحد الفاصل بين من يُصنف فقيرًا ومن لا يُصنف كذلك، بينما الفقر بحد ذاته حالة اجتماعية تعكس مستوى المعيشة والفرص الاقتصادية المتاحة للأفراد.

كيفية قياس الفقر وخط الفقر

يتم قياس الفقر بناءً على مؤشرات متعددة منها:

1. مؤشر دخل الفرد

يُستخدم لقياس ما إذا كان دخل الفرد اليومي أو الشهري أو السنوي يقع تحت خط الفقر المحدد.

2. سلة الحاجات الأساسية

يُعتمد على تحديد تكلفة الحد الأدنى من الحاجات الغذائية وغير الغذائية، ويتم حساب خط الفقر بناءً على تكلفة هذه السلة.

3. مؤشر الفقر متعدد الأبعاد (MPI)

يقيس الفقر بناءً على ثلاثة أبعاد رئيسية: الصحة، التعليم، ومستوى المعيشة. يعتمد هذا المؤشر على بيانات شاملة لتحديد مدى حرمان الأفراد في كل بعد.

4. مؤشر جيني

يُستخدم لقياس التفاوت في توزيع الدخل بين السكان، وهو لا يقيس الفقر بشكل مباشر لكنه يُظهر درجة التفاوت الاقتصادي.

العوامل المؤثرة في تحديد خط الفقر

يتأثر خط الفقر بعدة عوامل اقتصادية واجتماعية منها:

• مستوى الأسعار المحلية: حيث تختلف تكلفة الحاجات الأساسية من بلد لآخر.

• النظام الغذائي السائد: يختلف من ثقافة لأخرى مما يؤثر على تكلفة السلة الغذائية.

• المستوى العام للدخل: يؤثر على كيفية تحديد الفقر النسبي.

• الخدمات المتاحة: مثل التعليم المجاني أو التأمين الصحي الحكومي.

• التضخم: ارتفاع الأسعار يؤدي إلى رفع خط الفقر مع مرور الوقت.

الفقر في التقارير الدولية

تُصدر منظمات دولية مثل البنك الدولي والأمم المتحدة تقارير دورية حول معدلات الفقر في العالم. وفقًا لتقارير البنك الدولي، يعيش حوالي 9.2% من سكان العالم تحت خط الفقر المطلق (أقل من 2.15 دولار في اليوم وفق بيانات 2017 المعدلة). هذه النسبة تختلف من منطقة إلى أخرى، حيث ترتفع معدلات الفقر في إفريقيا جنوب الصحراء مقارنة بمناطق أخرى مثل أوروبا أو أمريكا الشمالية.

تُعد الدول النامية الأكثر تأثرًا بمعدلات الفقر المرتفعة نتيجة الحروب، الكوارث الطبيعية، الأزمات الاقتصادية، وضعف الخدمات الأساسية.

الفقر المتعدد الأبعاد

في السنوات الأخيرة، تطور مفهوم قياس الفقر ليأخذ في الاعتبار الفقر متعدد الأبعاد، والذي لا يركز فقط على الدخل بل يشمل جوانب أخرى كالتعليم والصحة والبنية التحتية. يُعتبر هذا النموذج أكثر شمولية في فهم واقع الفقراء.

يُعتمد هذا القياس على ثلاثة أبعاد رئيسية:

• الصحة: ويتضمن مؤشرات مثل سوء التغذية، وفيات الأطفال.

• التعليم: ويشمل سنوات الدراسة والتحاق الأطفال بالمدارس.

• مستوى المعيشة: ويتضمن امتلاك أساسيات الحياة مثل الكهرباء، المياه النظيفة، السكن الملائم.

يُقدم هذا المقياس رؤية أكثر واقعية لحالة الفقر، حيث قد يمتلك الشخص دخلاً كافيًا لكنه يفتقد إلى التعليم أو الخدمات الصحية المناسبة.

أسباب الفقر

تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى الفقر، ومن أبرزها:

• البطالة: من أهم العوامل التي تدفع الأفراد إلى ما دون خط الفقر.

• ضعف التنمية الاقتصادية: في الدول ذات الاقتصاديات الضعيفة تكون الفرص محدودة.

• غياب العدالة الاجتماعية: يؤدي إلى تركّز الثروة في يد فئة محدودة.

• الحروب والكوارث الطبيعية: تدمر البنية التحتية وتؤدي إلى نزوح السكان.

• الفساد الإداري: يُسهم في تآكل الموارد وحرمان الفئات المستحقة من الدعم.

• التعليم المتدني: يحرم الأفراد من فرص الحصول على وظائف جيدة.

آثار الفقر على المجتمعات

للفقر آثار خطيرة تتعدى الفرد لتؤثر على المجتمع بأسره، ومن هذه الآثار:

• زيادة معدلات الجريمة: نتيجة شعور الأفراد بالحرمان واليأس.

• تدهور الوضع الصحي: بسبب ضعف الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية.

• انتشار الأمية: بسبب عدم القدرة على تحمل تكاليف التعليم.

• إعاقة النمو الاقتصادي: لأن الفقر يُحد من القدرة الشرائية ويقلل من الإنتاجية.

• التفكك الاجتماعي: حيث يؤدي إلى تزايد الفجوة بين الطبقات.

السياسات العالمية لمكافحة الفقر

تبنت الأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة 2030 التي تهدف إلى القضاء على الفقر بكافة أشكاله. وقد تم اعتبار “القضاء على الفقر” الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر. تسعى الدول والمؤسسات الدولية لتحقيق هذا الهدف عبر:

• توفير برامج الحماية الاجتماعية.

• تعزيز فرص التعليم الجيد.

• تحسين الخدمات الصحية.

• توفير فرص عمل لائقة.

• دعم المشاريع الصغيرة.

جدول توضيحي لمستويات الفقر وفق البنك الدولي (بأسعار 2017)

خاتمة

الفقر وخط الفقر مفهومان مترابطان يُشكلان جزءًا رئيسيًا من منظومة التحليل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات. إن فهم الفقر لا يجب أن يقتصر على الأرقام المجردة بل ينبغي أن يتعمق في دراسة الأبعاد المتعددة التي تحيط بالإنسان في حياته اليومية. لا يمكن التعامل مع الفقر كظاهرة معزولة بل كإحدى النتائج المعقدة للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يستدعي تكاتف الجهود الدولية والمحلية لاعتماد سياسات مستدامة تستهدف ليس فقط زيادة الدخل، بل تحسين نوعية الحياة بكل أبعادها.

المصادر:

• البنك الدولي: World Bank. (2023). “Poverty and Shared Prosperity Report”.

• برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: UNDP. (2022). “Human Development Report”.