تطوّر قياس الذكاء: رحلة من البينيه إلى الويسكين

في سعي الإنسان لفهم وقياس الذكاء، انطلق البحث والتجارب عبر العديد من العقود. تاريخ قياس الذكاء يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان العلماء يسعون إلى وسيلة تعتمد على معايير محددة لتقييم القدرات العقلية للفرد. في هذا السياق، يظهر الدكتور ألفرد بينيه، الفيلسوف وعالم النفس الفرنسي، كواحد من أوائل المبتكرين في هذا الميدان.

ولد بينيه في عام 1857، وكان يهتم بفهم تفاوتات القدرات العقلية بين الأفراد. في عام 1905، قدم بينيه اختبارًا يُعرف اليوم باسم “اختبار بينيه للذكاء”، والذي يعد السجل الأول في تطوير أسلوب علمي لقياس القدرات العقلية. استندت فكرة الاختبار إلى مفهوم الذكاء كقدرة عامة يمكن قياسها.

تتيح هذه الأداة البحث عن القدرات العامة للأفراد في مجالات مثل المنطق واللغة والذاكرة. تعتمد فكرة الاختبار على مفهوم العمر العقلي، حيث يقاس أداء الفرد بالمقارنة مع الأشخاص الذين يتمتعون بنفس العمر العقلي. تعتبر هذه المقاربة ذات أهمية كبيرة في تقدير الذكاء بموضوعية، وتجنب التحيز الذي قد ينشأ من العوامل الاجتماعية أو التعليمية.

من خلال جهود بينيه وتقنياته الابتكارية، شهدت ميدان علم النفس تطورًا كبيرًا في فهم الذكاء وقياسه. إن إرث بينيه في مجال علم النفس يبرز أهمية تبني منهج علمي دقيق وموضوعي في فحص القدرات العقلية، مما ساهم في تشكيل الأسس للابتكارات اللاحقة في هذا الميدان المثير.

تجسيدًا لروح الابتكار والتطور في ميدان قياس الذكاء، لابد من التطرق إلى مفهوم الـ “كويفيشينت إنتليجنس تيست” الذي أسسه العالم الفرنسي الآخر، لويس تيرمان، في بداية القرن العشرين. تعتبر هذه الأداة إحدى الابتكارات الرائدة في مجال قياس الذكاء، حيث قام تيرمان بتعديل اختبار بينيه ليكون أكثر شمولًا وقابلية للتطبيق على فئات عمرية متنوعة.

وضع تيرمان أسساً لفهم أوسع وأكثر دقة لمفهوم الذكاء، حيث أشرك في اختباره عوامل جديدة مثل الذكاء اللفظي والذكاء الفضائي والقدرة العددية. كما قام بتقديم مفهوم “معدل الذكاء”، الذي يعبر عن النسبة بين العمر العقلي والعمر الفعلي، مما أدى إلى تحسين دقة قياس الذكاء.

من ثم، في الستينيات من القرن الماضي، قدم العالم الأمريكي دافيد ويسكين، اختبار الذكاء النموذجي “ويسكين للأطفال”، والذي كان يستهدف فئة الأطفال الصغار. كان هذا الابتكار محط اهتمام كبير نظرًا لتركيزه على تقييم القدرات الذهنية للأطفال وتحديد مستويات تفكيرهم.

لا يمكن تجاهل الإسهام البارز لجون كارول، الذي في سبعينيات القرن الماضي، قدم نظرية الذكاء المتعدد، حيث أقر بأن الذكاء لا يمكن تقييمه بأبسط صورة واحدة. وفقًا لكارول، يتألف الذكاء من عدة عناصر متنوعة مثل الذكاء اللفظي والذكاء الرياضي والذكاء الاجتماعي.

باختصار، يكمن جمال تاريخ قياس الذكاء في تطوره المستمر والمتنوع، حيث استفاد العلم من تجارب وابتكارات عدة لفهم أعماق العقل البشري وقياس قدراته بشكل أكثر دقة وشمولية.