الحواس وعملها عند الجنين
تعتبر مرحلة الحمل من أكثر المراحل تعقيدًا وإثارة في حياة الإنسان، حيث يشهد الجنين في رحم أمه تطورات هائلة على مختلف الأصعدة. ومن بين هذه التطورات، يُعد تطور الحواس أحد الجوانب المهمة التي تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل قدرة الجنين على التفاعل مع البيئة المحيطة به، حتى قبل ولادته. في هذا المقال، سنستعرض تطور الحواس عند الجنين منذ بداية الحمل وحتى لحظة الولادة، مع تسليط الضوء على كيفية عمل هذه الحواس في مراحل تطورها المختلفة.
أهمية تطور الحواس عند الجنين
الحواس هي وسيلة الاتصال الأولى بين الكائن الحي وبيئته، وهي ضرورية لفهم المحيط والتفاعل معه. في الإنسان، تبدأ الحواس في التكون في مراحل مبكرة جدًا من الحمل، مما يساهم في تطوير قدرة الجنين على التفاعل مع العالم من حوله، حتى وإن كان هذا العالم محصورًا في رحم أمه. فالحواس ليست مجرد أدوات للكشف عن المحيط، بل أيضًا وسيلة لبناء الأساس العصبي والتطوري الذي يضمن قدرة الطفل على التكيف والتفاعل بشكل صحيح بعد الولادة.
1. حاسة السمع
من بين الحواس التي تتطور مبكرًا عند الجنين هي حاسة السمع، حيث تبدأ الأذن الداخلية في التكون في الأسابيع الأولى من الحمل. بحلول الأسبوع السادس من الحمل، تكون الأذن الوسطى قد بدأت في النمو، وفي الأسبوع الـ 25، تصبح قدرة الجنين على سماع الأصوات المحيطة به أكثر وضوحًا. على الرغم من أن الجنين لا يستطيع سماع الأصوات بشكل واضح مثلما يفعل بعد الولادة، إلا أن الأصوات تأتي إليه عبر الحبل السري والسائل الأمنيوسي الذي يحيط به.
يسمع الجنين في هذه المرحلة أصواتًا غير واضحة أو مشوهة، مثل أصوات نبض قلب أمه، الأصوات الداخلية لجسم الأم، وأحيانًا الأصوات الخارجية التي تتسرب عبر الجسم. هذه الأصوات تُعتبر أساسية في تعزيز تطور دماغ الجنين، حيث تساعده على التكيف مع المحيط الذي سيولد فيه. هذا التفاعل السمعي المبكر يساهم في تشكيل الذاكرة السمعية للطفل بعد الولادة، حيث يكون قادرًا على التمييز بين أصوات معينة مثل صوت أمه أو أبيه.
2. حاسة البصر
تعد حاسة البصر واحدة من الحواس التي تتطور في وقت لاحق مقارنة بالحواس الأخرى. في بداية الحمل، لا يكون لدى الجنين أي قدرة على الرؤية. ومع تقدم الحمل، تبدأ عيون الجنين في التكون في الأسبوع الرابع أو الخامس. في الأسابيع الأولى، تكون العين مغلقة بشكل كامل، ولا يمكن للجنين رؤية الضوء أو الظلام. ومع نهاية الأسبوع 25 تقريبًا، تبدأ الجفون في الانفتاح تدريجيًا، لكن لا يزال الجنين غير قادر على رؤية الصور بشكل واضح.
تستمر حاسة البصر في التطور بعد الولادة، حيث يمكن للطفل في الأسابيع الأولى تمييز الأضواء الساطعة والألوان بشكل غير دقيق. ومع مرور الوقت، تزداد قدرة الجنين على التفاعل مع الضوء والظلال. وقد أظهرت بعض الدراسات أن الجنين يمكن أن يلاحظ التغييرات في الإضاءة داخل الرحم، مما يشير إلى بداية تطور حاسة البصر، وإن كانت هذه الملاحظات لا تتسم بالدقة التي تكون عليها رؤية الطفل بعد ولادته.
3. حاسة التذوق
حاسة التذوق تبدأ في التكون في وقت مبكر من الحمل. تبدأ براعم التذوق في التكوين في الأسبوع الـ 7 تقريبًا، ومع نهاية الأسبوع الـ 13، تكون قدرة الجنين على تذوق بعض المواد قد بدأت. على الرغم من أن الجنين لا يتذوق الطعام بشكل كامل كما يفعل بعد الولادة، إلا أنه يستطيع تمييز بعض المواد الكيميائية الموجودة في السائل الأمنيوسي.
يعتقد العلماء أن الجنين يمكنه تمييز الطعوم المختلفة من خلال السائل الأمنيوسي الذي يبتلعه. حيث تتغير تركيبة السائل الأمنيوسي بناءً على ما تتناوله الأم من طعام. وهذا قد يساعد في تطوير تفضيلات الطعام المستقبلية للطفل، حيث يبدأ في التعرف على الطعم الحلو أو المالح أو الحامض.
4. حاسة الشم
من الحواس المثيرة التي تتطور في مرحلة الحمل هي حاسة الشم. في حين أن حاسة الشم هي واحدة من الحواس التي تتأثر بشكل كبير بالتجارب الحسية بعد الولادة، فإن الدراسات تشير إلى أن الجنين يمكنه أيضًا استشعار بعض الروائح في رحم أمه. قد تكون هذه الروائح ناتجة عن الطعام الذي تتناوله الأم أو المواد الكيميائية الموجودة في الهواء. بحلول الأسبوع الـ 28 من الحمل، يصبح الجنين قادرًا على استشعار هذه الروائح التي قد تؤثر في مزاجه أو سلوكياته.
وتكمن أهمية هذه الحاسة في قدرتها على مساعدة الطفل على التفاعل مع بيئته بعد الولادة. فمن المعروف أن الأطفال حديثي الولادة يفضلون الروائح المألوفة لهم، مثل رائحة أمهاتهم، مما يدل على أن تطور حاسة الشم يبدأ في الرحم، ويستمر في لعب دور كبير بعد الولادة.
5. حاسة اللمس
حاسة اللمس هي من أولى الحواس التي تتطور عند الجنين، حيث يبدأ الجلد في التكوين في مراحل مبكرة جدًا من الحمل. في الأسبوع الـ 8 من الحمل، تبدأ الحواف الجلدية للجنين في التكون، ومع مرور الوقت، تنمو الأعصاب الحسية وتصبح أكثر تطورًا. مع تقدم الحمل، يبدأ الجنين في التفاعل مع محيطه من خلال حاسة اللمس، حيث يستطيع أن يشعر بحركة الأم أو باحتكاك الأعضاء الداخلية مع جدران الرحم.
بحلول الأسبوع 20 من الحمل، يبدأ الجنين في تحريك يديه وأصابعه، مما يشير إلى أن حاسة اللمس أصبحت أكثر تطورًا. يمكن للجنين أن يشعر ببعض الحركات والاحتكاك في محيطه، مثل احتكاك الحبل السري أو الضغط الناتج عن الوضعية الجنينية في الرحم.
تفاعل الحواس في نمو الجنين
تعتبر الحواس عند الجنين أداة هامة في عملية التفاعل مع البيئة المحيطة به. وبالرغم من أن البيئة في الرحم لا تشبه البيئة التي سيعيش فيها الجنين بعد الولادة، إلا أن تطور الحواس يساعد على إعداد الجنين للتكيف مع هذا العالم الجديد. من خلال التفاعل مع الأصوات والروائح واللمس، يبدأ الجنين في تشكيل الأساس العصبي الذي سيعتمد عليه في مراحل نموه اللاحقة.
تعتبر هذه الحواس أيضًا ضرورية لتطوير الدماغ، حيث تساعد في إنشاء الروابط العصبية التي ستدعم قدرة الطفل على التفاعل مع المحيط بعد ولادته. وبالرغم من أن الحواس لا تكون مكتملة بشكل كامل قبل الولادة، إلا أن تطور هذه الحواس منذ الأيام الأولى من الحمل يسهم في تشكيل قدرة الجنين على التفاعل مع المحيط بشكل فاعل، مما يوفر له أساسًا قويًا للتعلم والتفاعل بعد ولادته.
خاتمة
تعد الحواس من أهم العوامل التي تؤثر في نمو الجنين وتطوره داخل الرحم. بداية من السمع الذي يمكن الجنين من سماع الأصوات المحيطة به، إلى حاسة البصر التي تتطور ببطء، وصولًا إلى حواس التذوق والشم واللمس التي تساهم في تعزيز تجربة الجنين داخل الرحم، كل هذه الحواس تشكل ركيزة أساسية للتطور العصبي والتواصلي مع البيئة. إن فهم تطور الحواس عند الجنين يعكس التحديات التي يواجهها الجسم البشري في مسار نموه، ويعكس في ذات الوقت العلاقة العميقة بين الجنين وأمه.
