الاضطرابات النفسية حسب تصنيف الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين
تعتبر الاضطرابات النفسية من أكثر القضايا الصحية تعقيدًا في عالمنا المعاصر، إذ تمثل تحديًا كبيرًا سواء على مستوى الأفراد أو المجتمع ككل. وهي تشمل مجموعة واسعة من الحالات التي تؤثر على التفكير، والشعور، والسلوك، مما قد يؤدي إلى معاناة شديدة للأفراد المتأثرين. للتعامل مع هذه الاضطرابات، يعتمد الأطباء النفسيون على معايير تصنيف عالمية تساعد في تشخيص الأمراض النفسية وتوجيه العلاج المناسب. من أبرز هذه المعايير هو “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” (DSM) الذي تصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين (APA). هذا الدليل يعد مرجعًا رئيسيًا في الطب النفسي ويستخدمه المختصون في جميع أنحاء العالم لتحديد وتصنيف الاضطرابات النفسية.
1. التعريف بـ “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” (DSM)
الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية هو أداة معيارية وضعتها الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين بهدف تصنيف وتشخيص الاضطرابات النفسية. يصدر هذا الدليل بشكل دوري، ويشمل أحدث الأبحاث والمراجعات التي تساعد الأطباء في تقديم تشخيص دقيق. يتم تحديثه بشكل مستمر لمواكبة التقدم العلمي في فهم الأمراض النفسية.
يحتوي الدليل على قائمة مفصلة بأنواع الاضطرابات النفسية المختلفة، ويقدم معايير لتشخيص كل نوع. يتم تصنيف الاضطرابات النفسية في هذا الدليل بناءً على مجموعة من العوامل مثل الأعراض، والتأثيرات على الحياة اليومية، والفترة الزمنية التي استمرت فيها الأعراض، وعوامل أخرى متعددة.
2. أنواع الاضطرابات النفسية وفقًا لـ DSM
يتم تصنيف الاضطرابات النفسية في عدة فئات رئيسية في الدليل، كل منها يحتوي على مجموعة من الاضطرابات التي تشترك في خصائص معينة. وفيما يلي نستعرض أبرز الفئات التي يتم تصنيف الاضطرابات النفسية ضمنها:
أ. اضطرابات المزاج
تتضمن اضطرابات المزاج تلك التي تؤثر على الحالة النفسية بشكل مستمر، مما يؤثر على كيفية شعور الشخص تجاه نفسه والعالم من حوله. من أشهر هذه الاضطرابات:
-
الاكتئاب الشديد: يتميز هذا الاضطراب بمشاعر الحزن العميق، وفقدان الاهتمام أو المتعة في الأنشطة اليومية، بالإضافة إلى مشاكل في النوم والتركيز.
-
اضطراب ثنائي القطب: يتميز بتقلبات شديدة في المزاج بين الاكتئاب والهوس (مشاعر غير طبيعية من النشاط الزائد).
ب. اضطرابات القلق
تتسم اضطرابات القلق بالخوف المستمر والمفرط من المواقف أو الأشياء التي قد لا تكون خطرة. تشمل هذه الاضطرابات:
-
القلق العام: وهو حالة من القلق المستمر والمتواصل بشأن الأنشطة اليومية.
-
الرهاب الاجتماعي: يتسم بالخوف الشديد من المواقف الاجتماعية والتفاعل مع الآخرين.
-
الذعر: عبارة عن نوبات مفاجئة من القلق الشديد، والتي قد تترافق مع أعراض جسدية مثل تسارع ضربات القلب وصعوبة في التنفس.
ج. اضطرابات الشخصية
تتمثل في أنماط دائمة من السلوكيات والتفكير التي تؤدي إلى صعوبة في التكيف مع المجتمع. أهم هذه الاضطرابات تشمل:
-
اضطراب الشخصية الحدية: يتميز بتقلبات شديدة في العلاقات الشخصية، والمزاج، وصورة الذات.
-
اضطراب الشخصية النرجسية: يتميز بوجود شعور مفرط بالأهمية الذاتية والاحتياج المفرط للإعجاب من الآخرين.
د. الاضطرابات النفسية الناتجة عن التوتر
تحدث هذه الاضطرابات نتيجة لتعرض الشخص لأحداث حياتية شديدة أو متواصلة تؤدي إلى استجابة نفسية متزايدة. من أبرز هذه الاضطرابات:
-
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD): يحدث بعد تعرض الشخص لحادث صادم، ويتسم بأعراض مثل الكوابيس، والقلق المستمر، والانسحاب الاجتماعي.
-
اضطراب التكيف: يحدث عندما يعجز الشخص عن التكيف مع تغييرات كبيرة في حياته، مثل فقدان الوظيفة أو الانتقال إلى مكان جديد.
هـ. الاضطرابات الذهانية
تتسم الاضطرابات الذهانية بفقدان الاتصال بالواقع، مما يؤدي إلى تصورات وأفكار غير منطقية أو غير واقعية. من أبرز هذه الاضطرابات:
-
الفصام: يتميز هذا الاضطراب بتشويش في التفكير، والهلاوس (مثل سماع الأصوات) والأوهام (مثل الاعتقاد بأن شخصًا ما يتآمر ضد الشخص).
-
الاضطرابات الذهانية المؤقتة: تحدث نتيجة لتعرض الشخص لحدث صادم أو لاستخدام بعض المواد مثل المخدرات.
و. الاضطرابات العصبية
تتضمن الاضطرابات التي تؤثر على القدرات العقلية والوظائف الدماغية. من أبرز هذه الاضطرابات:
-
الزهايمر: هو نوع من الخرف الذي يؤثر على الذاكرة والتفكير، ويتسبب في تدهور القدرات المعرفية.
-
الخرف الجبهي: يتسبب في فقدان الذاكرة وفقدان السيطرة على السلوكيات.
ز. اضطرابات الأكل
تتعلق هذه الاضطرابات بالنمط غير الصحي في تناول الطعام، وقد تتسبب في مشاكل صحية خطيرة. تشمل هذه الاضطرابات:
-
فقدان الشهية العصبي: يتميز بفقدان الوزن الشديد نتيجة للتقليل المفرط من الطعام بسبب خوف مفرط من زيادة الوزن.
-
الشره المرضي العصبي: يتميز بتناول الطعام بشكل مفرط ثم اتباع سلوكيات مثل التقيؤ أو الإفراط في ممارسة الرياضة للتخلص من السعرات الحرارية.
ح. اضطرابات النوم
تؤثر هذه الاضطرابات على أنماط النوم، مما يسبب صعوبة في النوم أو الاستيقاظ في أوقات غير طبيعية. من أبرز هذه الاضطرابات:
-
الأرق: صعوبة في النوم أو البقاء نائمًا طوال الليل.
-
النعاس المفرط: الشعور بالنعاس بشكل مفرط أثناء النهار، حتى بعد الحصول على قسط كافٍ من النوم.
3. أسباب الاضطرابات النفسية
تتعدد أسباب الاضطرابات النفسية وتعتمد على العديد من العوامل الوراثية والبيئية والنفسية. يمكن تلخيص أبرز الأسباب كما يلي:
-
العوامل الوراثية: يعتقد العلماء أن الجينات تلعب دورًا في العديد من الاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، يظهر أن الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي من الاكتئاب أو الفصام قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بهذه الاضطرابات.
-
العوامل البيئية: التوتر المستمر، والصدمات النفسية، والتجارب السلبية مثل الإساءات أو فقدان الأشخاص المقربين يمكن أن تزيد من احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية.
-
العوامل البيولوجية: يشير الباحثون إلى أن التغيرات في مستويات المواد الكيميائية في الدماغ قد تؤدي إلى الاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، يعتقد أن انخفاض مستويات السيروتونين قد يكون له دور في الإصابة بالاكتئاب.
-
العوامل النفسية: الصراعات الداخلية، وطرق التفكير السلبية، وانعدام التقدير الذاتي قد تسهم أيضًا في تطوير الاضطرابات النفسية.
4. تشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية
يتم تشخيص الاضطرابات النفسية باستخدام الدليل التشخيصي والإحصائي للأطباء النفسيين، حيث يراجع الطبيب الأعراض التي يعاني منها المريض ويقارنها مع المعايير المحددة في الدليل. يعتمد العلاج على نوع الاضطراب وشدته، ويمكن أن يتضمن:
-
العلاج الدوائي: في العديد من الحالات، يمكن استخدام الأدوية لتقليل الأعراض، مثل مضادات الاكتئاب أو الأدوية المضادة للقلق.
-
العلاج النفسي: مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، الذي يهدف إلى تغيير الأفكار والسلوكيات السلبية.
-
الدعم الاجتماعي والعاطفي: وجود شبكة دعم من العائلة والأصدقاء يمكن أن يكون له تأثير إيجابي في تحسين الوضع النفسي.
5. الخاتمة
الاضطرابات النفسية هي مجموعة من الحالات التي تؤثر على حياة الأفراد بشكل عميق، ولكن مع التشخيص الصحيح والعلاج المناسب، يمكن للأشخاص المتأثرين بها أن يتحسنوا ويعيشوا حياة منتجة ومرضية. يتطلب ذلك التعاون بين الأطباء والمجتمع والعائلات لتوفير الدعم اللازم وتحقيق أفضل النتائج العلاجية.
