تحكيم شرع الله: أساس العدالة

تحكيم شرع الله: الأساس الشرعي والنظامي لنهضة الأمة

يُعد تحكيم شرع الله عز وجل الركيزة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي الحق، وهو التعبير العملي عن الإيمان الكامل بالله والرسالة المحمدية الخاتمة، والتجسيد الواقعي لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فالله جلّ وعلا هو الخالق، وله وحده الحق المطلق في التشريع، وما سواه من تشريعات بشرية فهي اجتهادات نسبية قاصرة مهما بلغت من الدقة والتنظيم. إن تحكيم شرع الله ليس خياراً أو تفضيلاً شخصياً، بل هو أمر واجب وفرض عيني على الأفراد والجماعات والحكومات، ومن مقتضيات العبودية الكاملة لله.

معنى تحكيم شرع الله

تحكيم شرع الله يعني إخضاع جميع مجالات الحياة، من عبادة ومعاملات، إلى الحكم بما أنزل الله في كتابه وسنة نبيه ﷺ، وعدم تقديم أي حكم بشري أو عرفي أو وضعي عليه. يشمل هذا المفهوم الجوانب التشريعية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث يكون المرجع الأعلى والنهائي هو النص الشرعي المستند إلى الوحي الإلهي.

قال تعالى:

“فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق”

(المائدة: 48)

وفي آية أخرى قال عز وجل:

“ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”

(المائدة: 44)

أهمية تحكيم شرع الله

1. تحقيق العبودية الخالصة لله
   
   تحكيم شرع الله هو أسمى مظاهر العبودية، فهو اعتراف بأن الله وحده هو المشرّع، وأن السيادة العليا له، وأن البشر ليسوا مخوّلين باستحداث قوانين تخالف شريعة الخالق.

2. تحقيق العدالة المطلقة
   
   إن الشريعة الإسلامية بما فيها من نصوص دقيقة ومقاصد عليا تحقق العدالة التامة لكل فرد في المجتمع. فهي لا تحابي أحداً بناءً على مكانته أو نسبه، وإنما تُحكِّم ميزان الحق وحده.

3. حفظ الضرورات الخمس
   
   شرع الله جاء ليحفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض. وكل التشريعات الإسلامية تصب في حماية هذه المقاصد الكبرى، على عكس القوانين الوضعية التي قد تتضارب مع بعضها أو تتجاهل جوانب جوهرية.

4. تحقيق الأمن والاستقرار
   
   عندما تُحكم المجتمعات بشرع الله، تسود الطمأنينة، ويُزال الظلم، وينحسر الفساد، وتُؤمن الحقوق، فلا يُعتدى على أحد ولا يُضام إنسان.

5. صيانة المجتمعات من التحلل والانهيار الأخلاقي
   
   القوانين الوضعية غالبًا ما تُشرّع وفقًا للأهواء أو المصالح السياسية أو الاقتصادية، بينما الشريعة الإسلامية تُربّي المجتمعات على القيم والمبادئ التي ترتكز على الطهارة والعدل والرحمة.

مجالات تحكيم شرع الله

الشريعة والواقع المعاصر

في عصرنا الحديث، ظهرت أصوات تطالب بفصل الدين عن الدولة بدعوى المدنية أو الحيادية أو التعددية، وهي دعوات لا تمت إلى الإسلام بصلة، بل هي امتداد لتجارب غربية محضة لا تصلح لمجتمع مسلم جعل الإسلام منطلقه ومصدر تشريعه. الشريعة الإسلامية لا تتعارض مع المدنية، بل هي أساسها، إذ إن الإسلام هو أول من وضع قواعد حقوق الإنسان، وضمن الحريات الشخصية والعامة، وحدّد مسؤوليات الدولة والمجتمع.

المجتمعات التي هجرت شريعة الله قد شهدت تفككًا أسريًا، وانتشار الجريمة، وتفاوتًا طبقيًا حادًا، وسوء توزيع الثروات، وانهيارًا أخلاقيًا شاملًا، مما يدل على فشل القوانين الوضعية في إقامة مجتمع فاضل متوازن.

العوائق التي تحول دون تحكيم الشريعة

1. الجهل بالشريعة
   
   كثير من الناس يظنون أن الشريعة لا تصلح لعصرنا أو أنها لا تشمل الجوانب الحياتية كلها، وذلك بسبب جهلهم بمرونة الشريعة وشمولها.

2. التبعية الفكرية للغرب
   
   الاستعمار ترك بصماته في عقول بعض المثقفين والنخب، الذين أصبحوا يرون التقدم مقرونًا بالتغريب وفصل الدين عن الحياة.

3. ضعف الإرادة السياسية
   
   كثير من الأنظمة الحاكمة لا تملك الإرادة أو الشجاعة الكافية لتطبيق الشريعة، خشية فقدان الدعم الدولي أو الوقوع في صدام مع القوى العالمية.

4. الأنظمة القانونية الموروثة من الاستعمار
   
   في العديد من البلدان الإسلامية، لا تزال القوانين الوضعية التي وُضعت في حقبة الاحتلال تُطبّق رغم تعارضها مع الشريعة.

5. تشويه صورة الشريعة في الإعلام
   
   هناك حملات ممنهجة تروّج لأن الشريعة قاسية أو رجعية، دون إبراز الجوانب الحضارية والرحيمة فيها.

وسائل تفعيل تحكيم الشريعة

1. التربية الشرعية للأجيال
   
   لا بد من غرس حب الشريعة وفهمها في نفوس الناشئة، من خلال المناهج التعليمية والأنشطة الثقافية والإعلامية.

2. الاجتهاد الفقهي المعاصر
   
   يجب أن يواكب الفقهاء تطورات العصر ويقدموا حلولًا شرعية للمستجدات، دون الإخلال بالأصول.

3. إعداد كوادر قضائية وتشريعية مؤهلة
   
   من الضروري تأهيل القضاة والمشرّعين ليكونوا قادرين على تطبيق الشريعة بعدل وكفاءة.

4. دعم المبادرات المجتمعية التي تطبق الشريعة عمليًا
   
   مثل المبادرات في الإصلاح الأسري، وحل النزاعات بالصلح الشرعي، وتنظيم الزكاة والوقف.

5. المطالبة الجماهيرية بتحكيم الشريعة
   
   كلما زاد الوعي المجتمعي بأهمية تحكيم شرع الله، اقتربت لحظة التغيير الشامل نحو نظام إسلامي عادل.

نماذج من تحكيم الشريعة في التاريخ الإسلامي

في عهد الخلفاء الراشدين، طبقت الشريعة كاملة دون نقصان، وكانت العدالة تشمل القاصي والداني، وكان الحاكم يُحاسب قبل المحكوم. عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف تطبيق حد السرقة في عام المجاعة، مراعاةً لظروف الناس، وهو ما يدل على رحمة الشريعة وحكمتها.

وفي العصور اللاحقة، حينما تمسّكت الأمة بالشريعة، شهدت الحضارة الإسلامية أوج ازدهارها في العلوم، والطب، والفلك، والعمران، والسياسة، بل كانت قبلة العالم في العدالة والتنظيم.

خاتمة

إن تحكيم شرع الله هو صمام الأمان الحقيقي لحفظ المجتمعات من الانهيار، ووسيلة إقامة العدل الشامل، وهو التعبير الواقعي عن الإيمان والولاء لله تعالى. الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنهض إلا بتحكيم الشريعة، والتخلص من التبعية القانونية والثقافية للأنظمة الوضعية، والعودة الصادقة إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، لأن في ذلك العز والنصر والخلاص في الدنيا والآخرة.

المراجع:

1. ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار المعارف، مصر.

2. يوسف القرضاوي، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة.