تحذير السلف من شهادة الزور

أقوال السلف في شهادة الزور

شهادة الزور من أعظم الكبائر وأشدها خطراً على الفرد والمجتمع، وقد أولى السلف الصالح هذا الأمر عناية كبيرة، نظراً لما فيه من تقويض للعدالة، وانتهاك لحرمة الحقوق، وتبديل للحقائق، وظلم للناس، وتحريف لما أنزل الله من أحكام وقيم. وقد جاءت النصوص الشرعية واضحة في تجريم شهادة الزور، وجعلها من الكبائر، بل قرنها الله تعالى بالشرك في قوله سبحانه: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30]، وقد أكد النبي ﷺ ذلك حين قال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» حتى كررها مراراً، وما زال يكررها حتى قال الصحابة: «ليته سكت».

لقد أدرك السلف الصالح خطورة هذه الجريمة، وحذروا منها تحذيراً بالغاً في أقوالهم ومواقفهم، لما رأوا من آثارها الوخيمة على حياة الناس، وفساد المجتمع، وهلاك الأمم.

معنى شهادة الزور عند السلف

شهادة الزور كما فسرها السلف هي: الإخبار بما يخالف الواقع بقصد إلحاق الضرر أو تحقيق منفعة باطلة، سواء في القضايا المالية أو العقوبات أو الحقوق أو غيرها. وهي تختلف عن مجرد الكذب العادي من حيث تأثيرها وضررها، إذ أنها تُرتكب في مقام العدالة، وتُسهم في إفساد الحكم، وتضييع الحقوق، وتبرئة الظالم وإدانة المظلوم.

قال الإمام ابن القيم في “إعلام الموقعين”:

“شهادة الزور أصل كل ظلم، ومنبع كل بلاء في الحكم، وما أُهلكت أمة ولا سُفكت دماء إلا وكان لشهادة الزور فيها نصيب.”

أقوال السلف في التحذير من شهادة الزور

1. عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

كان عبد الله بن مسعود من أكثر الصحابة تشديداً في هذا الباب، وقد نقل عنه أنه قال:

“ما من كبيرة بعد الشرك أعظم من شهادة الزور، ولقد سمعت رسول الله ﷺ يكررها حتى ظننا أنه لا يسكت.”

وقال أيضاً:

“شهادة الزور تساوي القتل، بل إن أثرها قد يكون أعظم، لأنها تقتل العدالة وتغتال الحق.”

2. الإمام الحسن البصري

كان الحسن البصري يُكثر من التحذير من شهادة الزور، ويرى أنها من أشد ما يدخل النار، وقال:

“إياكم وشهادة الزور، فإنها باب من أبواب النار، لا يشهدها عبد وهو يعلم إلا أحرقه الله بها يوم القيامة.”

وقال أيضاً:

“شهدت الزور دمار للضمير، وخراب للأمة، وهدم للعدل، وبيع للدين.”

3. سعيد بن المسيب

وهو من التابعين الكبار، قال:

“من شهد زوراً فقد باع دينه بعرض من الدنيا قليل، وكان خصمه يوم القيامة الله جل جلاله.”

وكان يقول لتلاميذه:

“لا تعتادوا اللسان على الكذب، فإنه مفتاح شهادة الزور، ومن تعود الكذب صدق الزور، وضل عن الهدى.”

4. الإمام مالك بن أنس

قال في “الموطأ”:

“من شهد الزور في مجلس من مجالس القضاء فليتُب إلى الله، ولا يُقبل له قول حتى تظهر توبته، ويُعرف صدقه.”

وكان مالك يرى أن شهادة الزور لا تفسد العدالة فحسب، بل تفسد الحياة كلها، لأنها تنشر الفساد وتُعمّق الظلم، وتُزعزع الثقة بين الناس.

5. الإمام أحمد بن حنبل

قال الإمام أحمد:

“شهادة الزور من أعظم الكبائر، ولا يُشهد صاحبها حتى يُعرف منه التوبة والإقلاع.”

وقال أيضاً:

“لو علمت أن رجلاً يشهد زوراً في مجلس ثم تاب، ما قبلت حديثه حتى يثبت لي صدقه.”

شهادة الزور في كتب السلف

لقد أفرد العلماء من السلف أبواباً في كتبهم تتناول شهادة الزور، ضمن كتب الحديث والفقه والأخلاق، ومن أبرز ما ذُكر:

آثار شهادة الزور في تصور السلف

كان السلف يرون أن شهادة الزور ليست فعلاً فردياً ينتهي بانتهاء المجلس، بل لها آثار تمتد وتتعاظم، ومنها:

1. ضياع الحقوق: إذ يُحرم المستحق حقه، ويُعطى الظالم ما لا يستحق.

2. انهيار القضاء: لأن الشهادة المزورة تُفسد الحكم، وتُضلل القاضي.

3. تفشي الفساد: لأن الظالمين يستعينون بها لنصرة باطلهم.

4. زوال البركة: كما قال سفيان الثوري: “شهادة الزور تمحق البركة من المال والنسل والعلم.”

5. حرمان الشفاعة: فقد ورد عن عبد الله بن عمر: “من شهد زوراً حُرم شفاعة النبي ولو كان من أهل القبلة.”

العقوبة الأخروية لشهادة الزور في أقوال السلف

قال عبد الله بن عباس:

“شهادة الزور لا يُغفر لصاحبها حتى يُحاسب على كل من ظلمه بها، فإن شفع له الله بعد ذلك فهو أرحم الراحمين.”

وقال أبو هريرة رضي الله عنه:

“من شهد زوراً فإنما يسكن جهنم داراً، ويأكل فيها ناراً، ويشرب فيها زقوماً.”

وقال الإمام أبو حنيفة:

“من مات ولم يتب من شهادة الزور مات وهو منافق، لأن قلبه لا يحمل خشية الله.”

موقف السلف من الشاهد الزور في المجتمع

السلف كانوا يشددون في التعامل مع شاهد الزور في المجتمع، ويعتبرونه شخصاً ساقط العدالة، ويُمنع من تحمل المسؤوليات، ولا يُؤتمن على الأمانات، ولا يُستشهد في شيء.

قال الإمام الشافعي:

“لو عُرف رجل بشهادة الزور، لم أقبل منه رواية حديث، ولا فتوى، ولا قول في دين، حتى يتوب توبة نصوحاً.”

وقال الإمام الليث بن سعد:

“شهدت مجلس قضاء، فرد القاضي شهادة رجل فقيل له: أما تعرفه؟ فقال: بل أعرفه، لكنه شهد زوراً مرة، ولا آمن أن يكررها.”

شهادة الزور بين النصوص والسلوك

السلف لم يكونوا فقط يحذرون منها بالأقوال، بل كانوا يربّون عليها أبناءهم وتلاميذهم عملياً. كان الرجل يُبكي ولده إذا كذب، ولو كذباً صغيراً، حتى لا يعتاد لسانه الزور.

روى عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول لتلامذته:

“عودوا ألسنتكم الصدق، فإنه باب النجاة، وإن شهادة الزور أولها كذبة، وآخرها نار لا تُطفأ.”

خلاصة موقف السلف

شهادة الزور عند السلف كانت من أخطر الذنوب، وكانت في مرتبة الشرك في بعض الأقوال، واعتبروها جريمة تهدم الدين والدنيا معاً. ولم يكن تعاملهم معها نظرياً فقط، بل سلوكياً وتربوياً وقضائياً. وقد كانوا يعتبرونها معياراً لصدق الإيمان، ومن ابتلي بها فقد سقط عن رتبة الصدق والأمانة.

المراجع:

1. “إعلام الموقعين” لابن القيم.

2. “جامع العلوم والحكم” لابن رجب الحنبلي.