لماذا دور المرأة القيادية مازال محتشماً؟
منذ آلاف السنين، كان المجتمع البشري يعمل وفقاً لتركيبات وأدوار محددة ذات طابع تقليدي. لقد تم تحديد الأدوار المجتمعية بناءً على عوامل متعددة مثل النوع الاجتماعي، والطبقات الاجتماعية، والاقتصاد، وحتى الدين. واحدة من أبرز القضايا التي أثرت في تطور المجتمعات هي قضية تمكين المرأة وتحدي الأدوار التقليدية المخصصة لها. وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي شهدته المرأة على مستوى العالم في شتى المجالات، فإن دورها القيادي في الكثير من الحالات ما زال محتشماً، وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول العوامل التي تحول دون تفعيل هذا الدور على أكمل وجه.
الجذور الثقافية والتاريخية
لطالما كانت الأدوار التي تلعبها المرأة في معظم المجتمعات مرتبطة بتقليدها بالأدوار المنزلية، وأنها مسؤولة عن تربية الأطفال والاهتمام بشؤون الأسرة. رغم أن هذا الدور كان ولا يزال مهماً في كثير من المجتمعات، إلا أن ممارسته بشكل حصري قد قيد قدرة المرأة على المشاركة الفاعلة في المناصب القيادية. على مر العصور، تم استغلال صورة المرأة في الثقافة الشعبية والدينية لتمثل الضعف والعاطفة في المقام الأول، ما ساهم في بناء هياكل اجتماعية تفضل الرجل في المراكز القيادية.
ومن خلال النظر إلى تاريخ العصور القديمة والوسطى، نجد أن القيادة كانت محصورة في الغالب في الرجال. حتى في الحالات التي كانت فيها النساء في المناصب القيادية، كانت تلك الحالات تعتبر استثنائية وغير طبيعية، حيث كان يُنظر إلى القيادة على أنها خصيصة طبيعية تقتصر على الذكور.
التحديات الاجتماعية والتربوية
عوامل التربية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل المفاهيم الاجتماعية حول قدرات المرأة القيادية. يبدأ هذا التأثير في الطفولة، حيث يزرع الأهل في أطفالهم، أحياناً عن غير قصد، فكرة أن القيادة ليست من اختصاص الفتيات، بينما يعتبر الأولاد مؤهلين لها. تساهم التربية في تشكيل أيديولوجيات الجنس، حيث تتعلم الفتاة أن طموحاتها ينبغي أن تتوجه إلى “المجالات الأنثوية”، مثل العناية، والرعاية، والتعليم، بينما يُشجَع الأولاد على الانخراط في مجالات تنافسية مثل الأعمال والسياسة.
ومع مرور الوقت، تصبح هذه المفاهيم جزءاً من الوعي الجمعي للمجتمع، ويُنظر إلى المرأة على أنها غير مؤهلة لتحمل المسؤوليات القيادية، حتى لو كانت تمتلك المهارات والقدرات اللازمة لذلك. هذه النظرة تظل موجودة في العديد من المجتمعات حتى اليوم، رغم تطور الحركات النسوية ودعوات تمكين المرأة.
العوامل الاقتصادية والهيكلية
من الجوانب الاقتصادية، لا يمكن إغفال أن المرأة في معظم البلدان لا تزال تواجه فجوة في الأجور مقارنة بالرجال، فضلاً عن الفجوة في الفرص المهنية. تركز العديد من الشركات والمنظمات على تصعيد الرجال إلى المناصب العليا لأنهم يعتبرونهم أكثر قدرة على تحمل المسؤولية بسبب تحصيلهم العلمي أو خبراتهم السابقة التي يعتقد أنها تفوق تلك التي يمكن أن تحققها المرأة. وفي هذا السياق، قد يتم استبعاد النساء أو التهميش لفرص القيادة حتى في البيئات التي تتطلب مهارات مشابهة بين الجنسين.
علاوة على ذلك، فإن التحديات التي تواجه المرأة في المناصب القيادية ليست اقتصادية فقط، بل هي هيكلية أيضاً. غالباً ما تكون الهياكل التنظيمية في الشركات والمؤسسات مبنية بشكل يضمن فاعلية الرجال في مراكز القيادة، سواء من خلال دعم شبكات العلاقات المهنية أو من خلال التفضيلات التي تُعطى لأشخاص مشابهين لبعضهم البعض (التوجه إلى الأنماط التقليدية للرجل القيادي). وفي هذا السياق، تشعر النساء أحياناً بأنهن لا ينتمين إلى هذه الشبكات أو أن ثقافة العمل لا تدعم تطورهن المهني.
القوالب النمطية والضغط الاجتماعي
يُعتبر تراجع النساء عن تولي المناصب القيادية نتيجة للعديد من القوالب النمطية التي تروج لها وسائل الإعلام والمجتمعات على حد سواء. يُنظر إلى المرأة التي تتمتع بشخصية قيادية أو طموح واضح في بعض الأحيان على أنها “طموحة بشكل مفرط”، أو “أنانية”، أو “غير متوازنة عاطفياً”، وهي صورة مغايرة تماماً للصورة التقليدية التي يُتوقع أن تكون المرأة عليها: رقيقة، عطوفة، ومتسامحة.
هذه القوالب النمطية تقف عائقاً أمام تطور المرأة وتقلل من فرصها في القيادة. وعليه، تصبح المرأة التي ترغب في التقدم في حياتها المهنية أو السياسية مطالبة بتجاوز هذه الانتقادات الاجتماعية، وتحتاج إلى إثبات نفسها في مواجهة معايير مزدوجة. تزداد صعوبة ذلك في المجتمعات التي لا تزال تركز على الأدوار التقليدية للجنسين، حيث تُعتبر النساء اللاتي يسعين إلى القيادة غالباً “خارجين عن المألوف”.
الدور الاجتماعي للأمومة والموازنة بين الحياة المهنية والشخصية
في معظم المجتمعات، يُعتبر الدور الأمومي من أهم أدوار المرأة، وهذا يمثل تحدياً إضافياً بالنسبة للمرأة التي تسعى إلى الوصول إلى المناصب القيادية. تواجه العديد من النساء معضلة الموازنة بين حياتهن الشخصية والمهنية، إذ قد تفرض الأمومة عبئاً إضافياً، خاصة في المجتمعات التي تفتقر إلى سياسات دعم فعالة للعائلات العاملة.
قد تنشأ عقبات عندما تشعر المرأة أنه يتعين عليها التضحية بأحد الجانبين لصالح الآخر، أو أنها لا تستطيع التوفيق بين العمل والاعتناء بالعائلة. الأمر الذي يؤدي إلى تردد الكثير من النساء في السعي نحو المناصب القيادية أو حتى الاستمرار في العمل على أعلى المستويات.
السياسات الحكومية والحركات النسوية
تعمل بعض الدول على تغيير الواقع من خلال تقديم سياسات تمكينية للنساء في المجال السياسي والاجتماعي، مثل فرض حصص للنساء في المجالس البرلمانية أو تشجيع الشركات على تعيين النساء في المناصب القيادية. ورغم هذه الجهود، إلا أن الواقع لا يزال يواجه تحديات كبيرة بسبب التقاليد المجتمعية التي تقاوم التغيير.
من جهة أخرى، لعبت الحركات النسوية دوراً مهماً في المطالبة بحقوق النساء في شتى المجالات، بما في ذلك المساواة في الفرص والحقوق في القيادة. على الرغم من الإنجازات التي تحققت على مدار السنوات، فإن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق المساواة الكاملة في المناصب القيادية بين الجنسين.
الخاتمة
إن تمكين المرأة في المجال القيادي ليس مجرد مسألة تتعلق بالحصول على الفرص أو القدرة على القيادة، بل هي قضية عميقة تتعلق بتغيير الفكر الجماعي وبناء بيئة اجتماعية واقتصادية تحتفل بالقدرات البشرية بدلاً من الانغلاق على الأدوار التقليدية. ومن خلال التعليم، وإعادة التفكير في الهياكل الاجتماعية، وتوفير بيئات داعمة، يمكن إحداث تحولات جذرية في كيفية رؤية المجتمع للمرأة وأدوارها القيادية، مما يمكنها من المشاركة الكاملة في اتخاذ القرارات الكبرى التي تؤثر في المجتمع والاقتصاد.
