تاريخ نشأة الإنترنت

كيف بدأ الإنترنت

في عصرنا الرقمي الذي يعتمد فيه العالم على الإنترنت في شتى مجالات الحياة، من التعليم والتجارة إلى الطب والتواصل الاجتماعي، من الصعب تخيل أن هذه الشبكة العالمية الواسعة قد بدأت كمشروع صغير ومحدود النطاق في أواخر ستينيات القرن العشرين. لم يكن الإنترنت وليد لحظة واحدة، بل هو ثمرة عقود من الابتكار، البحث العلمي، والتطورات التقنية المتتابعة التي اشتركت فيها مؤسسات أكاديمية وعسكرية وتجارية.

يتناول هذا المقال الطويل والموسع، المدعوم بالتفاصيل الدقيقة، نشأة الإنترنت وتطوره، متتبعًا مراحله الأولى من مشروع ARPANET وحتى الشبكة العالمية التي نعرفها اليوم، مع تسليط الضوء على أهم الابتكارات التكنولوجية والعوامل السياسية والعلمية التي مهدت الطريق لولادة الإنترنت.

النشأة الأولى: ARPANET وبذور الإنترنت

البداية الرسمية لفكرة الإنترنت تعود إلى عام 1969، عندما قامت وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية الأمريكية (ARPA)، والتي أصبحت تُعرف لاحقًا بـDARPA، بتطوير مشروع تجريبي يهدف إلى ربط أجهزة الحاسوب في مؤسسات بحثية مختلفة باستخدام شبكة اتصال مشتركة. أُطلق على هذا المشروع اسم ARPANET، وكان هدفه تسهيل مشاركة الموارد المعلوماتية بين مراكز الأبحاث والجامعات المتعاونة مع وزارة الدفاع الأمريكية.

كانت أول عملية نقل بيانات ناجحة تمت عبر هذه الشبكة بتاريخ 29 أكتوبر 1969 بين جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ومعهد ستانفورد للأبحاث. كانت الرسالة بسيطة: محاولة إرسال كلمة “LOGIN”، ولكن النظام تعطل بعد إرسال الحرفين الأولين “L” و”O” فقط. وعلى الرغم من هذا العطل، فقد اعتُبرت هذه اللحظة بداية فعلية للاتصال الرقمي بين الحواسيب عن بعد.

بروتوكول TCP/IP: لحظة التحول الكبرى

مع بداية السبعينيات، أصبح من الواضح أن توسيع الشبكة سيتطلب بروتوكولًا موحدًا لتبادل المعلومات. وهنا جاء الدور المحوري لكل من فينت سيرف وبوب كان، اللذان طوّرا بروتوكول التحكم بالإرسال/بروتوكول الإنترنت TCP/IP في منتصف السبعينيات. دخل هذا البروتوكول حيز التنفيذ الفعلي في 1 يناير 1983، وهو التاريخ الذي يعتبره كثيرون “ميلاد الإنترنت” الحقيقي، إذ أتاح الربط بين شبكات مختلفة على مستوى العالم.

TCP/IP وفر أساسًا قويًا لبناء شبكات واسعة النطاق، وأصبح العمود الفقري للاتصال بين الحواسيب، مما مهد الطريق لشبكات أخرى خارج الولايات المتحدة للاندماج لاحقًا في ما أصبح يُعرف باسم الإنترنت.

توسيع الإنترنت خارج نطاق الحكومة

خلال الثمانينيات، بدأت الجامعات والمؤسسات الأكاديمية باستخدام الإنترنت في أبحاثها وتبادل المعلومات فيما بينها، وبمرور الوقت، بدأ التوسع يشمل أيضًا مؤسسات خارج نطاق العمل العسكري. تم إنشاء شبكات أخرى موازية مثل:

• CSNET: شبكة علوم الحاسب التي ربطت الجامعات التي لم تكن تملك حق الوصول إلى ARPANET.

• NSFNET: شبكة المؤسسة الوطنية للعلوم، والتي ظهرت في عام 1986 كشبكة أساسية بديلة لربط مراكز الأبحاث والمكتبات العامة والجامعات.

وقد ساعدت هذه الشبكات على توسيع قاعدة المستخدمين، وزيادة الحاجة لتوحيد البنية التحتية الرقمية وتطوير أدوات تواصل سهلة.

ميلاد الشبكة العنكبوتية العالمية (World Wide Web)

على الرغم من أن الإنترنت كان موجودًا منذ بداية الثمانينيات، إلا أنه لم يكن سهل الاستخدام لعامة الناس. كان يتطلب معرفة تقنية متقدمة واستخدام أوامر نصية معقدة. وجاء التغيير الحاسم عندما قام الفيزيائي البريطاني تيم بيرنرز-لي في عام 1989، أثناء عمله في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN)، باقتراح نظام جديد لتنظيم المعلومات عبر الإنترنت باستخدام “الروابط التشعبية” والمستندات الإلكترونية. هذا الاقتراح أصبح فيما بعد يُعرف باسم الشبكة العنكبوتية العالمية (World Wide Web).

في عام 1991، أُتيحت الشبكة العنكبوتية للعامة، وكانت بمثابة ثورة حقيقية في طريقة الوصول إلى المعلومات وتبادلها. وأُطلق أول متصفح ويب رسومي عام 1993 تحت اسم Mosaic، ثم تطور لاحقًا إلى متصفح Netscape. هذا التطور كان الشرارة التي أطلقت الإنترنت إلى الجماهير، لتنتشر سريعًا خارج النطاق الأكاديمي والعسكري.

عوامل سياسية واقتصادية مهدت للانتشار العالمي

العديد من العوامل السياسية ساعدت في نشر الإنترنت بسرعة على المستوى العالمي. من أبرز هذه العوامل:

• تفكك الاتحاد السوفيتي وانفتاح دول أوروبا الشرقية على التكنولوجيا الغربية.

• تحرير قطاع الاتصالات في العديد من البلدان، مما أفسح المجال أمام شركات خاصة لتطوير خدمات الإنترنت.

• التحول النيوليبرالي في الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت المعلومات سلعة رئيسية وعاملاً حاسمًا في التنافس الاقتصادي.

كذلك، ساعد ظهور الشركات التقنية الكبرى مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون وياهو في دفع عجلة الاستخدام الفردي والتجاري للإنترنت.

الجدول الزمني لتطور الإنترنت

البنية التحتية: ما وراء الكواليس

خلف كل عملية تصفح، هناك شبكة ضخمة من الكابلات البحرية، والخوادم العملاقة، ومراكز البيانات المنتشرة عبر العالم. تعتمد الإنترنت على ما يُعرف بالبنية التحتية العالمية، التي تتضمن:

• كابلات الألياف الضوئية الممتدة عبر المحيطات، والتي تنقل البيانات بين القارات بسرعات عالية.

• مراكز البيانات التي تستضيف مواقع الويب، وتخزن بيانات المستخدمين، وتدير خدمات الحوسبة السحابية.

• نظام أسماء النطاقات (DNS) الذي يُشبه دليل الهاتف للإنترنت، حيث يترجم أسماء النطاقات مثل “google.com” إلى عناوين IP.

كل هذه المكونات تعمل بشكل متناغم لدعم الاتصال السلس بين المستخدمين على مستوى العالم.

الإنترنت والانتقال من الويب 1.0 إلى الويب 3.0

مرّ الإنترنت بعدة مراحل تطورية مهمة:

• الويب 1.0: كان يركز على المحتوى الثابت (Static Web)، حيث كان المستخدمون يستهلكون المعلومات دون التفاعل.

• الويب 2.0: بدأ منذ منتصف العقد الأول من القرن 21، وشهد انفجارًا في المحتوى التفاعلي، وظهور منصات التواصل الاجتماعي، والمدونات، والمحتوى الذي ينشئه المستخدمون.

• الويب 3.0: يمثل المرحلة القادمة التي تهدف إلى إنترنت أكثر ذكاءً ولا مركزية، باستخدام تقنيات مثل البلوكتشين، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء.

أثر الإنترنت على المجتمعات المعاصرة

منذ بدايته، أحدث الإنترنت تغيرًا جذريًا في كافة مناحي الحياة:

• في التعليم: أصبح التعلم عن بُعد ممكنًا، وتوفرت موارد تعليمية ضخمة بشكل مجاني.

• في التجارة: تطورت التجارة الإلكترونية، وتغيّر شكل الأسواق بشكل كبير.

• في السياسة: أصبحت الإنترنت أداة للتعبئة الشعبية، ومصدرًا رئيسيًا للأخبار والتحليل.

• في الصحة: دخلت التكنولوجيا الطبية مرحلة جديدة عبر التطبيب عن بعد والسجلات الصحية الرقمية.

• في الحياة اليومية: غيّر الإنترنت عادات البشر في التواصل، والعمل، والاستهلاك.

الخاتمة

نشأة الإنترنت لم تكن حدثًا عشوائيًا، بل كانت نتيجة لسلسلة من الابتكارات التكنولوجية والتطورات العلمية، مدفوعة بالحاجة لتبادل المعلومات بشكل فعال وسريع. تطور الإنترنت عبر عقود من الزمن ليُصبح اليوم جزءًا لا يتجزأ من الحياة البشرية، ومجالًا مفتوحًا للفرص والتحديات على حد سواء.

يبقى الإنترنت مشروعًا مستمرًا في التطور، ينمو يومًا بعد يوم، ولا تزال البشرية في بدايات اكتشاف إمكانياته الكاملة.

المراجع:

1. Leiner, B. M., et al. (1997). A Brief History of the Internet. ACM SIGCOMM.

2. Berners-Lee, T. (1999). Weaving the Web. Harper San Francisco.