تاريخ عيد الأم وأصالته

تاريخ عيد الأم: من جذور التقليد إلى الاحتفال العالمي

يُعتبر عيد الأم من أكثر المناسبات التي تُحتفل بها الشعوب في جميع أنحاء العالم، حيث يعبّر هذا اليوم عن تقدير الحب والرعاية التي تقدمها الأمهات لأبنائهن. ومع ذلك، فإن هذا اليوم الذي يبدو في الظاهر بسيطًا في معناه ومقاصده قد تطور عبر الزمن ليصبح أحد أهم الأعياد في العديد من الثقافات. ولكن ما هو تاريخ عيد الأم؟ وكيف تطور من مجرد احتفال محلي إلى مناسبة عالمية يتم الاحتفال بها في معظم أنحاء العالم؟ هذا هو ما سنتناوله في هذا المقال، حيث سنتعرف على نشأة عيد الأم، وأسباب الاحتفال به، وكيف أصبحت الأمهات محورًا للاحتفاء في مختلف أنحاء العالم.

جذور عيد الأم في العصور القديمة

لطالما كان مفهوم الأمومة مرتبطًا بالاحترام والتقدير في العديد من الثقافات القديمة. في الحضارات القديمة، كانت الأم تُعتبر مصدرًا للحياة والرعاية، ولذلك تم تكريمها في العديد من الأعياد والطقوس. ومن بين أقدم الأمثلة على ذلك، نجد الاحتفالات التي كانت تُقام في الحضارة اليونانية القديمة، حيث كان يُحتفل بالأم “ريا” (Rhea)، أم الآلهة، في مهرجان يُسمى “Hilaria” ويُقام في شهر مارس.

أما في روما القديمة، فقد كان هناك تقليد يسمى “Matronalia” يُحتفل به في بداية شهر مارس تكريمًا للأمهات المتزوجات. وكانت النساء في هذا العيد يحصلن على الهدايا والتهاني من أزواجهن وأفراد عائلاتهن. كما كان العيد يتضمن طقوسًا دينية، حيث تُقدم القرابين إلى الآلهة الأم “Juno” كعلامة على الاحترام والتقدير للأمهات.

تجدر الإشارة إلى أن فكرة تكريم الأمهات لم تكن مقتصرة على العالم الغربي فقط، بل كانت موجودة أيضًا في الثقافات الشرقية. ففي مصر القديمة، كانت هناك احتفالات مكرسة للإلهة “إيزيس” التي تُعتبر رمزًا للأم والخصوبة. كما كان الفراعنة يخصصون أيامًا معينة للاحتفاء بالأمهات وتكريمهن.

عيد الأم في العصر الحديث: كيف بدأ؟

في بداية القرن العشرين، بدأت فكرة الاحتفال بعيد الأم بالشكل الذي نعرفه اليوم. تعود أولى محاولات الاحتفال بعيد الأم في شكل حديث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت الناشطة الاجتماعية “آنا جارفس” هي من طرحت الفكرة. وُلِدت آنا جارفس في ولاية فرجينيا الغربية عام 1864، وكان والدها قسًا دينيًا وكانت والدتها تُدعى “آنا ريفس جارفيس”، وهي من النساء اللواتي كرسن حياتهن لرعاية المجتمع.

توفيت والدة آنا جارفيس عام 1905، وقررت آنا تكريمها بإحياء ذكرى الأم في يوم خاص يُحتفل به على مستوى الوطن. في عام 1907، أرسلت آنا رسائل إلى العديد من الأشخاص في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، تدعوهم للاحتفال بعيد الأم في ثاني يوم أحد من شهر مايو. بدأ هذا التقليد ينتشر تدريجيًا بين الأفراد والجمعيات المحلية، وأصبح يومًا مخصصًا لإظهار الحب والامتنان للأمهات.

كان الدعم الحكومي لهذه الفكرة ضعيفًا في البداية، لكن آنا جارفيس لم تيأس. وظلت تواصل جهودها في نشر الوعي حول أهمية هذا اليوم وضرورة جعله عطلة وطنية. بعد عدة سنوات من النضال، وبتوجيه من آنا جارفيس، أقرّ الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” في عام 1914 إعلان عيد الأم عطلة رسمية في الولايات المتحدة، وأصبح الاحتفال به يتزامن مع يوم الأحد الثاني من شهر مايو.

عيد الأم ينتشر عالميًا

بعد أن أصبح عيد الأم عطلة رسمية في الولايات المتحدة، انتقل هذا التقليد إلى العديد من دول العالم. بدأت دول أخرى في تبني الاحتفال بعيد الأم، خاصة في الدول الغربية، مثل كندا وأستراليا والمملكة المتحدة. كما انتقلت الفكرة إلى أمريكا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية، حيث أصبح اليوم يُحتفل به بشكل مشابه لما يحدث في الولايات المتحدة.

لكن عيد الأم لم يقتصر على الدول الغربية فقط. ففي البلدان العربية، بدأ الاحتفال بعيد الأم في بداية القرن العشرين، وخصوصًا في مصر، حيث بدأ الإذاعي الراحل “على معز” في الترويج لهذا العيد عبر إذاعة القاهرة في أوائل الستينيات. ثم أخذ الاحتفال ينتشر تدريجيًا في الدول العربية الأخرى، واعتُمد يوم 21 مارس من كل عام ليكون عيد الأم في معظم الدول العربية، بما في ذلك مصر ولبنان وسوريا وغيرها من البلدان.

المعنى الاجتماعي والثقافي لعيد الأم

يعتبر عيد الأم فرصة للتعبير عن الحب والتقدير للأمهات، ولكن المعنى وراءه يتعدى مجرد تقديم الهدايا أو الورود. هذا اليوم يمثل احتفاء بالعطاء والتضحيات التي تقوم بها الأمهات في مختلف مراحل حياتهن. في العديد من الثقافات، يُنظر إلى الأم على أنها العمود الفقري للعائلة والمجتمع، حيث تلعب دورًا حيويًا في تربية الأجيال وتوجيههم.

إلى جانب هذا، يرتبط عيد الأم أيضًا بالقيم الإنسانية العميقة مثل الرحمة والرعاية والتضحية. فهو يوم يتذكر فيه الأبناء الدور الكبير الذي تلعبه الأم في حياتهم، ويعكس الوعي المتزايد بأهمية رعاية المرأة في المجتمع.

من الناحية النفسية، يعتبر عيد الأم فرصة لتقوية الروابط العائلية، حيث يساهم في تعزيز العلاقة بين الأمهات وأبنائهن. في هذا اليوم، يعبر الأبناء عن مشاعرهم تجاه أمهاتهم بشكل أكبر، سواء بالكلمات أو الهدايا، أو من خلال المساعدة في الأعمال اليومية.

الاحتفالات بعيد الأم حول العالم

تختلف طرق الاحتفال بعيد الأم من دولة إلى أخرى، ولكن يجمع الجميع حب الأمهات وتقديرهن. ففي بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة وكندا، يتم الاحتفال بعيد الأم بتقديم الزهور، خاصة الزهور البيضاء أو الوردية، وهي رمز للحب والاحترام. كما تُعد هذه المناسبة فرصة للذهاب إلى المطاعم وتناول العشاء مع الأمهات في أجواء عائلية.

أما في الدول العربية، فيتم الاحتفال بعيد الأم من خلال تقديم الهدايا، مثل العطور أو المجوهرات، بالإضافة إلى تنظيم احتفالات خاصة في المدارس، حيث يشارك الأطفال في أداء الأغاني الخاصة بهذه المناسبة ويقدمون الهدايا لوالداتهم. كما تُقام في بعض المناطق فعاليات تطوعية تكريمية للأمهات في دور الأيتام والمراكز الاجتماعية.

الاحتفال بعيد الأم في العصور الرقمية

في العصر الحديث، وخاصة في السنوات الأخيرة، أصبح عيد الأم يتم الاحتفال به عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أصبحت منصات مثل فيسبوك وإنستجرام وتويتر مكانًا لتبادل التهاني والاحتفاء بالأمهات عبر نشر الصور والكلمات الجميلة. كما ظهرت حملات رقمية على مستوى العالم تشجع على تكريم الأمهات ومشاركة القصص الإنسانية عن تضحياتهن.

وفي بعض الأحيان، يمكن أن يتحول عيد الأم إلى مناسبة عالمية للتضامن مع الأمهات في مناطق معينة يعانين من ظروف صعبة، مثل الأمهات في مناطق الحروب أو الأزمات الإنسانية. كما نشأت أيضًا بعض الحملات التي تُسلط الضوء على قضايا الأمهات في العمل، مثل حقوقهن في الحصول على إجازات أمومة، أو المساواة في الأجور، وغيرها من القضايا الاجتماعية.

الخلاصة

يظل عيد الأم أحد أهم الأعياد التي تكرّم الدور الكبير الذي تلعبه الأمهات في الحياة الأسرية والاجتماعية. وقد بدأ هذا التقليد في التاريخ القديم، ثم تطور ليصبح مناسبة عالمية في العصر الحديث، حيث يُحتفل به في معظم دول العالم، بمختلف أشكاله وطرق الاحتفال. وإن كان أصل هذا العيد يعود إلى الاحتفالات الدينية القديمة، إلا أن التقدير الذي يوليّه المجتمع للأم يعكس تطورًا مستمرًا في الوعي الاجتماعي بأهمية دور الأم في تكوين الأسرة والمجتمع بشكل عام.