من بنى سور الصين العظيم؟
سور الصين العظيم، ذلك المعلم التاريخي الرائع الذي يعد من عجائب العالم السبع القديمة، ليس مجرد حصن دفاعي فحسب، بل هو شاهد على عظمة التاريخ الصيني وقوة حضارته على مر العصور. إن قصة بناء هذا السور هي قصة تحدٍ بشري عظيم، وجزء مهم من إرث الصين الطويل والمجيد. يظل سور الصين العظيم رمزاً للصلابة والتفاني، إذ تم تشييده عبر مئات السنين في ظل ظروف صعبة وعوامل طبيعية متقلبة. يتجاوز هذا المعلم البصري حدوده الجغرافية ليصبح رمزًا للتصميم والصمود، ويعكس تطور حضارة الصين عبر فترات زمنية متعددة.
تاريخ بداية بناء سور الصين العظيم
كان بناء سور الصين العظيم مشروعًا عظيمًا امتد على فترات زمنية طويلة، وهو لم يقتصر على فترة واحدة أو على حقبة زمنية واحدة من تاريخ الصين. يعود أصل فكرة السور إلى العصور المبكرة من تاريخ الصين، حيث كانت هناك حاجة ملحة لحماية الحدود الشمالية للإمبراطورية من الهجمات المتكررة لشعوب الهون والبدو، مثل “القبائل الشمالية” و”التركيين” الذين كانوا يشكلون تهديدًا دائمًا للحضارة الصينية.
تاريخ بناء السور يتنقل بين عدة سلالات صينية، ولكن يمكن القول بأن السور لم يكن بناء واحدًا، بل كان سلسلة من التحصينات الدفاعية التي تم توسيعها وتطويرها عبر القرون.
البداية: أسرة تشين (221-206 قبل الميلاد)
إن أول من بدأ في بناء الجدران التحصينية التي ستتحول فيما بعد إلى سور الصين العظيم كانت أسرة تشين (التي حكمت من 221 إلى 206 قبل الميلاد)، بقيادة الإمبراطور “تشي هوانغ دي” (Qin Shi Huang). هذا الإمبراطور كان هو من بدأ بتوحيد الصين بعد فترات طويلة من الحرب الأهلية بين الدول المتحاربة (التي استمرت من 475 إلى 221 قبل الميلاد).
كان الإمبراطور تشي هوانغ دي يرى أن هناك حاجة ملحة لبناء جدار دفاعي طويل على طول الحدود الشمالية لحماية الإمبراطورية من الهجمات المستمرة من قبائل “الشيونغ نو” (Xiongnu) التي كانت تتمركز في منطقة منغوليا. كانت أسرة تشين هي أول من قام بتوسيع الجدران الصغيرة التي كانت موجودة في الماضي، وبدأت في ربطها لتشكيل حاجز دفاعي واحد.
لكن بناء السور في هذه المرحلة كان بسيطًا نسبيًا من حيث المواد المستخدمة، حيث تم استخدام التراب والطين والصخور لبناء الجدار، وهو ما جعل الحصن هشًا وسهل التدمير. بعد موت الإمبراطور تشي هوانغ دي، توقف بناء السور لفترة، وبدأت الأسوار التي تم تشييدها تتعرض للتآكل.
أسرة هان (206 قبل الميلاد – 220 ميلادي)
في فترة حكم أسرة هان، تم تكثيف وتوسيع بناء السور بشكل أكبر. تولى الإمبراطور “لو بانغ” (Liu Bang) حكم الصين، وواجه تهديدات متزايدة من قبائل “الشيونغ نو” في الشمال. بدأ أسلوب البناء يتطور بشكل تدريجي، حيث استخدمت المواد مثل الحجر والطوب بدلًا من التراب والطين. مع ذلك، لم تكن أسرة هان قد أكملت السور بشكل كامل، ولكنها وضعت الأساس الذي سيستكمل لاحقًا.
أسرة سوي (581 – 618 ميلادي) وأسرة تانغ (618 – 907 ميلادي)
على الرغم من أن أسرتي سوي وتانغ قد استفادتا من بعض الأفكار التي تم تطبيقها في بناء السور، إلا أن الأمور لم تزداد تقدمًا كما كان الحال في عهد أسرة هان. ومع بداية أسرة تانغ، ابتعدت الصين عن بناء السور، إذ كانت الحكومة الصينية مشغولة بتوسيع نفوذها في الداخل وفي اتجاهات أخرى مثل الجنوب والغرب. لكن مع مرور الزمن، شهدت الصين تغيرات في الحكم والنفوذ أدت إلى عودة الاهتمام ببناء التحصينات الدفاعية.
أسرة مينغ (1368-1644 ميلادي)
يعد عهد أسرة مينغ هو العصر الذهبي لبناء سور الصين العظيم. خلال هذا العصر، أصبح السور أكثر تطورًا وأصبح معلمًا ضخمًا يتألف من أسوار متعددة تمتد عبر آلاف الكيلومترات. استغرق بناء السور خلال هذه الفترة وقتًا طويلًا، وتم استخدام تقنيات متقدمة جدًا مقارنة بالأزمنة السابقة. في فترة أسرة مينغ، كان السور يتضمن العديد من الأبراج الدفاعية والحصون، مما جعله حاجزًا محصنًا ضد الهجمات.
تميز السور في هذه الفترة باستخدام الطوب والحجر المقوى بدلاً من المواد التقليدية الأخرى مثل الطين والتراب. كما تم تدعيم السور بالعديد من الأبراج المراقبة، بحيث يستطيع الجنود من خلالها مراقبة الحركة على طول الحدود الشمالية لإمبراطورية الصين. إضافة إلى ذلك، كان السور مزودًا بأبواب محصنة، ممرات ضيقة، وآليات دفاعية مثل الفخاخ لمواجهة الغزاة.
لكن أسرة مينغ لم تبنِ السور بشكل متواصل في كل أنحاء الصين، بل تمركز البناء في المناطق الأكثر تهديدًا والتي تشمل السهول الشمالية الصينية والمناطق المجاورة لمنغوليا.
المواد والتقنيات المستخدمة في بناء السور
على الرغم من أن بناء سور الصين العظيم تطور عبر العصور، إلا أن المواد الأساسية التي استخدمت في معظم فترات البناء كانت متشابهة إلى حد كبير. في البداية، استخدم الناس الطين والحجارة لتشييد الجدار، وفي بعض الأماكن استخدموا الخيزران لتقوية الأسوار. في فترات لاحقة، بدأ استخدام الطوب المجفف بأشعة الشمس، الذي كان أقوى وأكثر مقاومة للعوامل الجوية.
مع تطور تقنيات البناء، بدأ الصينيون في استخدام أدوات أكثر تطورًا مثل المنحدرات الخشبية لرفع الحجارة والأدوات المعدنية لقطع الصخور بشكل أكثر دقة. من المعروف أن الجهود البشرية كانت هائلة، حيث عمل ملايين من العمال والفلاحين والمجندين في بناء السور. يُقدّر أن أعداد العمال الذين شاركوا في بناء السور قد تصل إلى ملايين الأشخاص، وكثير منهم كانوا مجندين قسريًا، وتم تكليفهم بهذا المشروع تحت تهديدات بالعقاب القاسي.
الهدف من بناء سور الصين العظيم
كان الهدف الأساسي من بناء سور الصين العظيم هو حماية الحدود الشمالية للصين من الهجمات العسكرية من قبائل الشمال، وبخاصة من قبائل الهون والشيونغ نو والمغول. كان السور يشكل خط الدفاع الأول ضد الغزاة، وفي بعض الأحيان كان يُستخدم أيضًا كوسيلة للسيطرة على التجارة والأنشطة الاقتصادية التي كانت تتم عبر الطرق التجارية.
لكن مع مرور الوقت، أصبح السور ليس فقط معلمًا دفاعيًا، بل رمزًا للثقافة الصينية ورؤيتها السياسية. لقد أظهر قدرة الصين على تنظيم مشاريع ضخمة، والالتزام بالأمن والاستقرار.
الترميم والحفاظ على السور
على مر العصور، تعرض سور الصين العظيم لعدة عوامل من التآكل والزلازل والعوامل البيئية، مما أدى إلى تدمير بعض أجزائه. في العصر الحديث، بدأت الحكومة الصينية في جهود كبيرة لترميم أجزاء من السور، حيث أصبح السور أحد أهم المواقع السياحية في العالم. يُعد السور اليوم وجهة سياحية شهيرة، حيث يزور الملايين من الناس من جميع أنحاء العالم الصين سنويًا للاستمتاع بجمال هذا المعلم العظيم.
خلاصة
إن بناء سور الصين العظيم هو شهادة على إرادة وصمود الشعب الصيني عبر العصور. من أسرة تشين إلى أسرة مينغ، كان السور رمزًا للقدرة على التغلب على الصعوبات والتحديات التي واجهتها الصين في فترات متباينة من تاريخها. ورغم أن السور كان يشكل حاجزًا دفاعيًا في البداية، فإنه أصبح اليوم جزءًا لا يتجزأ من هوية الصين، ويمثل الإنجاز البشري في مجال الهندسة المعمارية والبناء، ويظل واحدًا من أكثر المعالم السياحية شهرة في العالم.
