مدينة القيروان تعد من أبرز المدن التاريخية في العالم الإسلامي، وهي مدينة ذات قيمة حضارية ودينية كبيرة، تأسست في شمال أفريقيا وتحديداً في تونس الحالية. يشكل بناء القيروان نقطة تحول مهمة في تاريخ الفتح الإسلامي وامتداد الحضارة الإسلامية في المغرب العربي. ولذا فإن الحديث عن من بنى مدينة القيروان يتطلب استعراضاً مفصلاً لتاريخ تأسيسها، أسباب اختيار موقعها، وأدوارها في التاريخ الإسلامي.
تأسيس مدينة القيروان
يرجع تأسيس مدينة القيروان إلى بداية القرن السابع الميلادي، وتحديداً في عام 50 هـ الموافق 670 ميلادي، على يد القائد العربي الإسلامي عقبة بن نافع الفهري، وهو أحد قادة الفتح الإسلامي في شمال أفريقيا. كان عقبة بن نافع من قادة الفتوحات الأبرز في التاريخ الإسلامي، وترك أثراً عميقاً في نشر الإسلام وتأسيس الحكم الإسلامي في المغرب الكبير.
جاء تأسيس القيروان في إطار الجهود العسكرية والسياسية لتنظيم وتثبيت الوجود الإسلامي في منطقة المغرب العربي، التي كانت حينها تحت سيطرة قبائل بربرية متفرقة وعبر النفوذ البيزنطي. فقد أراد عقبة بن نافع بناء قاعدة عسكرية وثقافية تساعد في استكمال الفتح وكنقطة انطلاق لتوسيع نفوذ الدولة الإسلامية غرباً.
الأسباب التي دفعت إلى اختيار موقع القيروان
اختيار موقع القيروان كان له أسباب جغرافية واستراتيجية بحتة، إذ تقع المدينة في منطقة وسط تونس اليوم، على مقربة من السهل الساحلي الخصيب الذي كان يربط بين مناطق المغرب العربي والجزء الشرقي من أفريقيا. هذا الموقع جعل من القيروان مركزاً حيوياً يتيح السيطرة على طرق التجارة والمواصلات، بالإضافة إلى كونه نقطة وصل بين مناطق متعددة من شمال أفريقيا.
كما كان الموقع يوفر مناخاً مناسباً ومستوى أرضي يسهل بناء المدينة عليه، مع توفر المياه من منابع قريبة مثل وادي مجردة، مما ساعد على تطور المدينة ونموها الزراعي.
تصميم وبناء المدينة
قام عقبة بن نافع بتأسيس القيروان في البداية كمعسكر عسكري لحماية الجيوش الإسلامية، لكنه سرعان ما تطور ليصبح مدينة متكاملة تضم مسجداً جامعاً، ومساكن، وأسواقاً، ومرافق حكومية، ومدرسة دينية. المسجد الكبير في القيروان، المعروف بمسجد عقبة، هو من أقدم المساجد في أفريقيا، ويعكس أهمية المدينة كمركز ديني وتعليمي.
كان تخطيط المدينة يتبع نموذج المدن الإسلامية التقليدية التي تجمع بين الجانب العسكري والديني والتجاري، حيث كانت الأسوار تحيط بالمدينة لحمايتها، بينما الأحياء الداخلية تضم مساكن السكان والمساجد والأسواق. وقد تم التركيز على بناء بنى تحتية تسهل الحياة اليومية، مثل القنوات المائية التي تضمن وصول المياه للمدينة.
دور القيروان في نشر الإسلام والثقافة
بعد تأسيسها، تحولت القيروان إلى مركز إشعاع ديني وثقافي هام في شمال أفريقيا. أصبحت المدينة مركزاً لتعليم العلوم الشرعية واللغات والعلوم المختلفة، وجذبت العلماء والفقهاء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. كما لعبت دوراً بارزاً في نشر الإسلام بين القبائل البربرية التي كانت تتردد في الدخول في الإسلام، إذ كانت القيروان قاعدة لتوجيه الدعوة الإسلامية.
كان للمسجد الجامع في القيروان دور محوري في حياة المدينة، إذ لم يكن مجرد مكان للصلاة فقط، بل كان مركزاً للدروس الدينية والاجتماعية، حيث تم تأسيس أولى المدارس التي درّست الفقه والعلوم الإسلامية.
التوسع العمراني والتاريخي للمدينة
مع مرور الوقت، توسعت القيروان وأصبحت عاصمة لإمارة إفريقية التي كانت جزءاً من الدولة الأموية في بداية الفتح، ثم الدولة العباسية، ومن ثم الدولة الفاطمية. شهدت المدينة نهضة عمرانية وثقافية كبيرة في تلك الفترات، حيث تم تعزيز بنيتها التحتية، وزادت أعداد السكان، وازدهرت التجارة والحرف اليدوية.
في العصور الوسطى، استمرت القيروان كمركز مهم للمغرب الإسلامي، وكانت تمثل نقطة التقاء بين الثقافات العربية والبربرية والأمازيغية، ما أضفى عليها طابعاً فريداً من التنوع الثقافي والحضاري.
الجدول التالي يوضح مراحل بناء وتطور مدينة القيروان عبر العصور المختلفة:
| المرحلة الزمنية | الأحداث الرئيسية في بناء وتطوير القيروان |
|---|---|
| 670 م (50 هـ) | تأسيس المدينة على يد عقبة بن نافع كمقر عسكري |
| القرن الثامن الميلادي | بناء المسجد الجامع وتطوير المدينة لتصبح مركزاً دينياً وثقافياً |
| القرن التاسع الميلادي | توسع العمران وزيادة عدد السكان وازدهار التجارة |
| القرن العاشر الميلادي | حكم الدولة الفاطمية وتعزيز مكانة المدينة كعاصمة ثقافية |
| القرون الوسطى | استمرار النمو الثقافي والاقتصادي مع تنوع سكاني وحضاري |
| العصر الحديث | المحافظة على التراث المعماري والديني واعتبار المدينة موقع تراث عالمي |
الأثر الحضاري والديني للقيروان
تتميز القيروان بكونها أول مدينة إسلامية تأسست في المغرب العربي، وهذا ما يجعلها نموذجاً فريداً من نوعه في تاريخ بناء المدن الإسلامية. لقد ساهمت في نشر الإسلام بشكل فعّال، وكانت مركزاً لتجميع العلماء وتخريج الطلبة الذين نشروا العلم في بقية مناطق أفريقيا وأوروبا.
كما أن التراث المعماري في القيروان، الذي يظهر في المساجد، والقصور، والأسوار، والأسواق، يعد شاهداً على مهارة المعماريين المسلمين في العصور القديمة، ويشكل أحد أبرز المعالم التاريخية التي تستقطب الزائرين والباحثين من مختلف أنحاء العالم.
خاتمة
بناء مدينة القيروان لم يكن مجرد تأسيس مكان سكن، بل كان خطوة استراتيجية وحضارية كبيرة على يد عقبة بن نافع الفهري، الذي أسس مدينة كانت ولا تزال منارة للعلم والدين في شمال أفريقيا. القيروان شهدت مراحل عديدة من التطور والنمو، وأصبحت نموذجاً للحضارة الإسلامية في المغرب العربي، محافظة على مكانتها الدينية والتاريخية حتى يومنا هذا.
المراجع:
-
الحبيب السائح، “تاريخ المغرب الإسلامي”، دار الفكر، تونس، 1998.
-
محمد عبد الله عنان، “تاريخ الفتح الإسلامي للمغرب العربي”، دار الفكر العربي، القاهرة، 2002.
