تأثير الفيس بوك على السعادة

عندما يُصبح الفيس بوك عادة… يضعف الشعور بالسعادة

في العقود الأخيرة، شهد العالم ثورة تكنولوجية هائلة غيّرت من نمط الحياة البشرية، وكان من أبرز ملامح هذه الثورة بروز مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها منصة “فيس بوك” التي تأسست عام 2004 وأصبحت في غضون سنوات قليلة جزءاً أساسياً من الحياة اليومية لمليارات الأشخاص حول العالم. ورغم ما حملته من إمكانيات هائلة للتواصل والانفتاح على الآخر وتبادل المعرفة، إلا أن الاستخدام المفرط والمتكرر للفيس بوك، وتحوله إلى عادة يومية أو حتى إدمان بالنسبة للبعض، بدأ يُفرز آثارًا سلبية عميقة على الصحة النفسية للفرد، من أبرزها تراجع الشعور بالسعادة الحقيقية، وتآكل القدرة على التمتع بالحياة الواقعية.

هذه الظاهرة لم تعد مجرد وجهة نظر فردية أو ملاحظة مجتمعية، بل صارت محورًا لعدد كبير من الأبحاث النفسية والسوسيولوجية التي رصدت الارتباط القوي بين كثافة استخدام الفيس بوك، وانخفاض معدلات الرضا عن الذات، وتراجع مستوى السعادة العامة لدى المستخدمين، خاصة بين فئة الشباب والمراهقين. ويمكن فهم هذا التراجع من خلال تفكيك مكونات التجربة الفيسبوكية وتحليل طبيعة التفاعل الذي تفرضه هذه المنصة على الأفراد بشكل يومي.

الفيس بوك كبيئة اجتماعية رقمية مضغوطة

بخلاف العلاقات الاجتماعية الطبيعية، حيث يتفاعل الناس ضمن سياقات متنوعة، وضمن مستويات متعددة من القرب والبعد، يفرض الفيس بوك على مستخدميه نوعاً من العلاقات المكثفة، المتواصلة، والمبنية في كثير من الأحيان على مظاهر سطحية وغير واقعية. فالمستخدم يتعرض يوميًا لعشرات، بل مئات المنشورات والصور ومقاطع الفيديو التي يُظهر فيها الآخرون لحظاتهم السعيدة وإنجازاتهم وأماكن سفرهم ومظاهر ترفهم. ومع مرور الوقت، تتكون صورة ذهنية لدى المستخدم مفادها أن الآخرين يعيشون حياة أكثر روعة، وأقل توتراً، وأكثر سعادة منه. وهذا الشعور يولّد ما يعرف في علم النفس بمفهوم “المقارنة الاجتماعية السلبية”، وهو شعور سام يؤدي إلى الإحباط وتقليل احترام الذات.

مقارنة غير عادلة مع صور منمقة

المنشورات على الفيس بوك غالباً ما تكون مُختارة بعناية، وقد تُظهر جانباً واحداً فقط من حياة الأشخاص – الجانب الإيجابي والمشرق. إلا أن المتلقي، ومن دون وعي، يقارن هذه الصور المختارة والمعدّلة بحياته الواقعية المليئة بالتحديات والمشكلات اليومية. ومن هنا، تبدأ السعادة بالتراجع، ويشعر الشخص بأنه متأخر عن الركب، وأن حياته أقل نجاحاً من الآخرين. وهذا الشعور قد يتحول تدريجياً إلى اكتئاب خفيف، أو ما يُعرف بـ”القلق الاجتماعي الرقمي”.

الإدمان على التفاعل والبحث عن القبول

واحدة من الخصائص الجوهرية التي يُراهن عليها الفيس بوك لجذب المستخدمين هي آلية “الإعجابات” والتعليقات والمشاركات. هذه الآلية تُفعّل في الدماغ ما يُعرف بدورة المكافأة، حيث يبدأ الشخص بالشعور بالنشوة المؤقتة عند تلقي عدد كبير من الإعجابات أو التعليقات على منشور ما. ولكن هذا الإحساس زائل، ويُولد حالة من الاعتماد المستمر على التفاعل الخارجي كمصدر للتحفيز والسعادة، بدلًا من بناء مصادر داخلية أكثر ثباتًا وواقعية للرضا عن الذات.

مع الوقت، يتحول السلوك إلى إدمان نفسي حقيقي، إذ يبدأ المستخدم في التفكير بشكل مستمر في ما يجب نشره، ومتى، ولمن، وكيف ستكون ردود الفعل، بل ويُقيّم نجاح يومه بناءً على التفاعل مع منشوراته، لا على الإنجازات الحقيقية أو التفاعلات الحسية المباشرة. وهذا ما يضعف الشعور العفوي بالسعادة، ويستبدله بشعور هش قائم على ردود فعل الآخرين وتقييمهم الرقمي.

العزلة المغلّفة بالتواصل

رغم أن الفيس بوك أُنشئ في الأساس كأداة لتوسيع شبكة العلاقات والتواصل مع الأصدقاء والعائلة، إلا أن المبالغة في استخدامه قد تُفضي إلى نتائج معاكسة تماماً. فبدلاً من أن يُقوّي الروابط الاجتماعية، يصبح بديلاً عنها. يختار الشخص أن يُرسل رسالة أو تعليقاً بدلاً من إجراء مكالمة أو لقاء مباشر. ومع الوقت، تتقلص دوائر التواصل الواقعي، ويتحول الإنسان إلى كائن رقمي أكثر منه اجتماعي، مما يُضعف من قدرته على بناء علاقات حقيقية ومستقرة، ويزيد من مشاعر العزلة والوحدة.

هذه العزلة “المُقنّعة” قد تمر دون وعي، خاصة عند من يشعرون بأنهم على اتصال دائم بالآخرين من خلال التعليقات والإعجابات، لكنهم في الحقيقة لا يخوضون تفاعلات ذات معنى أو دفء إنساني. وقد أثبتت دراسات حديثة أن نوعية التواصل – وليس كميته – هي العامل الأكثر تأثيراً في مستوى السعادة، وهذا ما يفتقده مستخدمو الفيس بوك عندما يستبدلون الصداقات الواقعية بتفاعلات رقمية عابرة.

اضطراب النوم وتداخل الوقت الشخصي

واحدة من الآثار الجانبية الهامة لاستخدام الفيس بوك بشكل مفرط هو تداخله مع أنماط النوم الطبيعية. كثير من الأشخاص يُبقون هواتفهم بجانبهم في السرير، ويستمرون في التصفح حتى لحظات متأخرة من الليل، مما يُضعف جودة النوم، ويُحدث اضطراباً في إيقاع الساعة البيولوجية. النوم السيء، بدوره، يرتبط مباشرة بانخفاض مستويات السيروتونين والدوبامين – وهما هرمونا السعادة في الدماغ – مما يؤدي إلى شعور دائم بالإرهاق، وتقلبات مزاجية حادة، وقلق مستمر.

ضعف التركيز والشتات الذهني

الاعتماد المتكرر على الفيس بوك للحصول على معلومات، ترفيه، أخبار، وتفاعل اجتماعي يجعل الدماغ في حالة من النشاط المستمر غير الموجّه. تتشتت الأفكار، وتضعف القدرة على التركيز في نشاط واحد لوقت طويل. هذا النوع من الاستخدام المكثف يؤثر على الأداء الأكاديمي والمهني للمستخدمين، ويخلق لديهم شعوراً بالفوضى الذهنية وعدم الإنجاز، مما ينعكس سلبًا على تقدير الذات والسعادة العامة.

دور الخوارزميات في تشكيل المزاج

الفيس بوك لا يُظهر للمستخدمين منشورات أصدقائهم بشكل عشوائي، بل يعتمد على خوارزميات مصممة بدقة لتحفيز البقاء أطول فترة ممكنة على المنصة. هذه الخوارزميات قد تُظهر محتوى مثيراً للجدل، أو سلبيًا، أو مثيراً للقلق، فقط لأنه يحقق تفاعلاً عاليًا. وبالتالي، يتحول الفيس بوك إلى بيئة محتملة للتوتر، بدلًا من أن يكون منصة للتواصل الإيجابي. وقد أظهرت تحليلات أن الكثير من المستخدمين يُغادرون المنصة وهم في حالة نفسية أسوأ مما كانوا عليه عند الدخول، دون وعي مباشر بسبب هذا التلاعب الخوارزمي غير المرئي.

تآكل مفهوم الخصوصية وتزايد القلق الوجودي

كثرة مشاركة الأحداث اليومية، الصور، الأفكار والمواقف على الفيس بوك، تجعل حياة الفرد مكشوفة بدرجات متفاوتة أمام دائرة واسعة من المتابعين. ومع الوقت، تبدأ الذات الإنسانية في التآكل، إذ يفقد الشخص الشعور بالخصوصية، ويبدأ في صياغة حياته بما يتلاءم مع تصورات وتوقعات المتابعين. وهذا بدوره يزيد من الضغط النفسي، ويُضعف من الشعور بالأصالة والاستقلال الذاتي، وهما من أهم العوامل المولدة للشعور بالرضا والسعادة.

الجوانب النفسية والمجتمعية المتأثرة

سبل التوازن والوقاية

رغم هذه التحديات، فإن الحل لا يكمن بالضرورة في مقاطعة الفيس بوك كليًا، بل في الاستخدام الواعي والمحدود له، وإعادة التوازن بين العالم الرقمي والواقعي. من بين الوسائل المقترحة: تخصيص أوقات محددة لاستخدام الفيس بوك، عدم تصفحه قبل النوم، الاعتماد على التفاعل الواقعي بدلًا من الرقمي، وتدريب النفس على مقاومة المقارنة السلبية. كما أن تعزيز الأنشطة الحقيقية مثل القراءة، الرياضة، التطوع، واللقاءات الاجتماعية يُعد من أبرز وسائل تعزيز السعادة الحقيقية وتقليل الاعتماد العاطفي على المنصات الرقمية.

المصادر:

• Kross, E., Verduyn, P., Demiralp, E., et al. (2013). Facebook Use Predicts Declines in Subjective Well-Being in Young Adults. PLOS ONE.

• Twenge, J. M. (2017). iGen: Why Today’s Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy. Atria Books.