لماذا الخمر يذهب العقل

الخمر أو الكحول هو مركب كيميائي له تأثير مباشر وعميق على الجهاز العصبي المركزي في الإنسان، مما يؤدي إلى تغيرات في الإدراك والوعي والسلوك. تأثير الخمر على العقل لا يقتصر على مجرد الشعور بالسكر أو النشوة المؤقتة، بل يمتد ليشمل اضطرابات في الوظائف العقلية والمعرفية، وقد يصل إلى فقدان السيطرة على النفس وانعدام القدرة على اتخاذ قرارات سليمة. لفهم لماذا الخمر يذهب العقل، لا بد من النظر في تأثيراته البيولوجية والكيميائية على الدماغ، وكذلك فهم الآليات التي يعمل من خلالها وكيف تتداخل مع وظائف العقل.

تركيب الخمر وتأثيره الكيميائي على الدماغ

الكحول هو مركب عضوي يُعرف علمياً بالإيثانول (C2H5OH)، وهو عبارة عن سائل عديم اللون، قابل للذوبان في الماء، ويُمتص بسرعة عبر بطانة المعدة والأمعاء إلى مجرى الدم، حيث ينتقل بسرعة إلى الدماغ. بمجرد وصول الكحول إلى الدماغ، يبدأ في التأثير على الخلايا العصبية التي تعتمد على الاتصالات الكيميائية والكهربائية لتنسيق وظائف الدماغ.

تعمل جزيئات الكحول على تعديل نشاط مستقبلات معينة في الدماغ مثل مستقبلات الغابا (GABA) ومستقبلات الغلوتامات (Glutamate)، وهما نظامان رئيسيان للتحكم في نشاط الأعصاب.

• مستقبلات الغابا (GABA): هي المستقبلات المثبطة للنشاط العصبي، بمعنى أنها تعمل على تهدئة الأعصاب وتخفيف نشاطها. يعمل الكحول كمحفز لهذه المستقبلات، مما يزيد من تأثيرها المثبط ويؤدي إلى تباطؤ النشاط العصبي بشكل عام، وبالتالي يسبب حالة من الاسترخاء والخمول والارتخاء العضلي.

• مستقبلات الغلوتامات: هي المستقبلات المنشّطة للنشاط العصبي، والكحول يعمل على تثبيط هذه المستقبلات، مما يقلل من قدرة الخلايا العصبية على التواصل السريع والفعّال.

هذا الخلل في توازن المثبط والمنشط في الدماغ يسبب اضطراباً في الوظائف العصبية التي تعتمد على التناسق الدقيق بين النشاطات العصبية المختلفة.

تأثير الخمر على الوظائف العقلية

1. تأثير على الإدراك والوعي:
   
   عند تناول الخمر، يقل الإدراك الحسي والتركيز، ويصبح الدماغ أقل قدرة على معالجة المعلومات بدقة. ينخفض مستوى الوعي الذاتي، ما يجعل الشخص أقل قدرة على تقييم مواقفه أو تصرفاته بشكل عقلاني.

2. تأثير على الذاكرة:
   
   للكحول تأثير سلبي مباشر على مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة مثل الحصين (Hippocampus). يؤدي ذلك إلى ضعف القدرة على تكوين ذكريات جديدة، وفي حالات شرب كميات كبيرة، قد يحدث فقدان مؤقت أو دائم للذاكرة (النسيان أو ما يعرف بالسّكوت).

3. تأثير على التحكم في السلوك:
   
   يضعف الكحول السيطرة على القشرة الأمامية للدماغ (Prefrontal Cortex) المسؤولة عن التخطيط واتخاذ القرارات والضبط الذاتي للسلوك. لذلك يصبح الشخص أكثر ميلاً إلى التصرفات الاندفاعية أو الخطيرة أو غير المنطقية.

4. تأثير على التنسيق الحركي والتوازن:
   
   يسبب الكحول اضطراباً في مراكز الدماغ المسؤولة عن التوازن والحركة، مثل المخيخ (Cerebellum)، ما يؤدي إلى فقدان التوازن والرعشة وصعوبة في التنسيق الحركي.

5. تأثير على المزاج والعواطف:
   
   يغير الكحول من كيمياء الدماغ التي تنظم المشاعر، مما قد يؤدي إلى تقلبات مزاجية حادة، من السعادة الزائدة والتهور إلى الحزن أو العدوانية.

التغيرات العصبية والفسيولوجية الناتجة عن الكحول

يتفاعل الكحول مع عدة نواقل عصبية تؤثر على أنظمة الدماغ المختلفة، مما يؤدي إلى تعطيل الاتصالات العصبية المتوازنة. إلى جانب زيادة تأثير ناقل الغابا (GABA) المثبط، فإنه يقلل من تأثير ناقل الغلوتامات المنشط، وهذا الاختلال يسبب بطء في استجابة الدماغ وانخفاض في نشاطه.

كما يؤثر الكحول على نظام الدوبامين (Dopamine)، وهو الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالمتعة والمكافأة. فزيادة إفراز الدوبامين بعد تناول الكحول تسبب الشعور بالنشوة والسرور، مما يفسر الرغبة في تكرار الشرب. إلا أن الإفراط يؤدي إلى تحطيم توازن هذا النظام، ويؤدي في النهاية إلى الإدمان والتغيرات المزمنة في الدماغ.

الآثار السلبية على الدماغ طويلة الأمد

الإفراط في تناول الخمر لا يؤدي فقط إلى فقدان العقل مؤقتاً، بل يمكن أن يسبب أضراراً دائمة في الدماغ تشمل:

• ضمور المخ: نقصان حجم الدماغ نتيجة موت خلايا عصبية، خصوصاً في المناطق المسؤولة عن الذاكرة والتعلم.

• خلل في وظائف الإدراك: ضعف في التركيز والانتباه والقدرة على التعلم والتفكير التحليلي.

• مرض الكبد الكحولي وتأثيره على الدماغ: الكبد التالف ينتج سمومًا تترسب في الدماغ وتؤثر على وظائفه (اعتلال دماغي كبدي).

• اضطرابات نفسية وسلوكية: زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، القلق، والفصام.

الجدول التالي يوضح بعض تأثيرات الخمر على وظائف الدماغ المختلفة:

الخمر وفقدان العقل من منظور نفسي واجتماعي

بعيداً عن التأثيرات الكيميائية والفسيولوجية، يحمل تناول الخمر تبعات نفسية واجتماعية تؤثر على العقل بشكل أوسع. فالشخص في حالة سُكر يفقد القدرة على التحكم في انفعالاته، ما يسبب اضطراباً في العلاقات الاجتماعية وزيادة فرص وقوع الحوادث، سواء كانت حوادث مرورية أو نزاعات شخصية.

على المدى الطويل، يمكن أن تؤدي حالات الإدمان على الخمر إلى تدهور الصحة النفسية، وفقدان الوظائف الاجتماعية والمهنية، مما يزيد من تعميق الاضطرابات العقلية.

كيف يذهب الخمر العقل؟

يمكن تلخيص آلية ذهاب العقل بفعل الكحول في النقاط التالية:

• تثبيط النشاط العصبي: زيادة عمل مستقبلات الغابا تؤدي إلى بطء الوظائف الدماغية.

• تثبيط المستقبلات المنشطة: تقليل نشاط الغلوتامات يضعف التواصل العصبي.

• تعطيل القشرة الأمامية: المسؤول عن التفكير المنطقي واتخاذ القرار، مما يؤدي إلى سلوكيات متهورة.

• تلف الخلايا العصبية: نتيجة التعرض المزمن للكحول.

• التغيرات الكيميائية في الدماغ: تؤدي إلى تغير المزاج وصعوبة في التركيز.

كل هذه العوامل مجتمعة تفسر لماذا يذهب العقل عند شرب الخمر.

الخلاصة

الخمر يؤثر على الدماغ والجهاز العصبي المركزي بطرق متعددة تتسبب في فقدان القدرة على التفكير العقلاني، التحكم في السلوك، التركيز، والذاكرة. تأثيراته تتراوح بين تأثير مؤقت ونشوة قصيرة إلى أضرار دائمة قد تؤدي إلى تغيرات هيكلية ووظيفية في الدماغ. هذه التأثيرات ناتجة عن التفاعل الكيميائي للكحول مع النواقل العصبية المختلفة التي تتحكم في نشاط الأعصاب. فهم هذه الآليات يوضح لماذا يعتبر الخمر من المواد التي تذهب العقل وتؤثر سلباً على الصحة النفسية والعقلية للإنسان.

المراجع:

1. Nestler, E.J. et al. “Neurobiology of Alcohol Dependence.” Pharmacology & Therapeutics, 2013.

2. Koob, G.F., Volkow, N.D. “Neurobiology of Addiction: A Neurocircuitry Analysis.” The Lancet Psychiatry, 2016.