ماذا يحصل في دماغك عندما ترى Like على ما كتبته على الفيسبوك؟

يُعدّ التفاعل الاجتماعي حاجة إنسانية أساسية تعود بجذورها إلى أعماق التاريخ البشري، حيث ساهم التواصل والتقدير الاجتماعي في بقاء الإنسان ضمن الجماعة وتعزيز مكانته فيها. في العصر الرقمي، أخذ هذا التفاعل أشكالاً جديدة، وأصبح زر “الإعجاب” أو “Like” أحد أبرز الرموز المعاصرة للتقدير الاجتماعي في منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك. ولكن ما الذي يحدث على المستوى العصبي والنفسي عندما يتلقى المستخدم “إعجابًا” على منشوراته؟ ولماذا يبدو هذا الفعل البسيط قادرًا على إثارة مشاعر إيجابية قوية بل وحتى الإدمان؟

هذا المقال يستعرض بالتفصيل التغيرات الكيميائية والوظيفية في الدماغ عند تلقي الإعجاب، مستندًا إلى نتائج أبحاث علم الأعصاب، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السلوكي. كما يشرح كيف تستغل شركات التكنولوجيا هذه الاستجابات العصبية لبناء منتجات قادرة على جذب المستخدمين بشكل دائم.

التفاعل الرقمي واستجابة الدماغ

عند رؤية المستخدم لإعجاب على منشوره في فيسبوك، يحدث تحفيز لنظام المكافأة في الدماغ، وهو عبارة عن شبكة عصبية معقدة تتفاعل عند حدوث تجارب سارة، كالنجاح أو الطعام أو الحب أو حتى عند تعاطي بعض العقاقير.

يُعتبر النواة المتكئة (Nucleus Accumbens) من أهم مراكز المكافأة في الدماغ، وهي منطقة تنشط عند التوقع أو الحصول على مكافأة. عند تلقي “لايك”، يُفرز الدماغ مادة الدوبامين، وهي ناقل عصبي يُعرف بدوره المحوري في تعزيز الشعور بالسعادة والتحفيز. هذا التدفق المفاجئ للدوبامين يشبه إلى حد بعيد ما يحدث عند حصول المرء على مكافأة مادية مفاجئة أو مدح علني أمام الآخرين.

تفسير بيولوجي: كيف يعمل نظام المكافأة؟

نظام المكافأة في الدماغ يتكون من عدة مناطق مترابطة، وأهمها:

عند رؤية “لايك”، تُرسل إشارة بصرية إلى القشرة البصرية، والتي تتفاعل مع مناطق الذاكرة والمشاعر لتفسير معنى هذا التفاعل الاجتماعي. يتم تنشيط النواة المتكئة، ويبدأ إفراز الدوبامين، مما يسبب شعورًا بالرضا والسرور.

هذا الشعور الإيجابي يدفع الدماغ إلى تكرار السلوك الذي أدى إلى إفراز الدوبامين — أي نشر المزيد من المحتوى على أمل الحصول على تفاعل أكبر.

الإعجابات كأداة للتعزيز الإيجابي

ينتمي نظام “الإعجابات” إلى نوع من أنواع التعزيز الإيجابي المعروف في علم النفس السلوكي. وفقًا لنظرية “التعزيز الفوري”، فإن المكافأة التي تأتي مباشرة بعد الفعل تُعزز تكرار هذا الفعل. كلما زاد عدد الإعجابات، زاد احتمال تكرار المستخدم لنفس النمط من المنشورات.

هذا يخلق دورة سلوكية تعتمد على:

1. السلوك: نشر محتوى على فيسبوك.

2. النتيجة: الحصول على إعجابات.

3. المكافأة العصبية: إفراز الدوبامين.

4. تكرار السلوك: نشر محتوى جديد.

ومع تكرار هذه الدورة، يتعلّم الدماغ ربط “الإعجابات” بالشعور بالقبول والانتماء.

الجانب النفسي: القيمة الذاتية والهوية الرقمية

من منظور علم النفس الاجتماعي، يشكّل عدد الإعجابات الذي يتلقاه المستخدم مقياسًا غير مباشر لتقدير الذات. يُسهم هذا التقدير الرقمي في تعزيز أو إضعاف صورة الشخص عن نفسه.

عندما يحصل الفرد على عدد كبير من الإعجابات، فإن ذلك يعزز مفهومه عن كونه محبوبًا أو جديرًا بالاهتمام. في المقابل، قد يؤدي قلة التفاعل إلى شعور بالإحباط، أو مقارنة الذات بالآخرين، وهي سلوكيات تُعرف في علم النفس بظاهرة “مقارنة الذات الاجتماعي” (Social Comparison).

تُشير دراسات عدة إلى أن الأشخاص الذين يربطون هويتهم الرقمية بقيمتهم الذاتية يكونون أكثر عرضة للتأثر سلبًا عند انخفاض التفاعل على منشوراتهم، وهو ما يفسر مشاعر القلق أو الحزن التي تنتاب البعض عندما لا يحصلون على “الإعجابات” المتوقعة.

الإعجابات والإدمان السلوكي

تشبه استجابة الدماغ للإعجابات إلى حد بعيد استجابته لبعض السلوكيات الإدمانية. فبحسب أبحاث جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA)، فإن رؤية المستخدم لإعجابات على منشوراته تنشّط نفس مناطق الدماغ التي تتنشّط عند تعاطي الكوكايين أو المقامرة.

مع الوقت، يصبح المستخدم مدفوعًا بتوقّع الإعجاب أكثر من المحتوى ذاته، مما يعزز السلوك القهري المتكرر في نشر المحتوى وتفقد التفاعل عليه. يُعرف هذا النمط من التفاعل بـ”الإدمان السلوكي”، وهو لا يعتمد على مادة كيميائية خارجية، بل على تحفيز داخلي لنظام المكافأة.

دور التصميم النفسي في جذب الدماغ

تعتمد منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك، على تقنيات تصميم تُعرف بـ”التصميم القائم على علم الأعصاب السلوكي” (Neurobehavioral Design). تهدف هذه التقنيات إلى استغلال استجابات الدماغ الطبيعية لجعل المستخدم يقضي أطول وقت ممكن في التفاعل مع المنصة.

من أبرز هذه التقنيات:

• المكافأة المتقطعة (Variable Reward): لا تأتي الإعجابات دائمًا بنفس المعدل أو التوقيت، مما يجعل الدماغ يتوقّع بشكل مستمر مكافآت جديدة، ويزيد من التفاعل.

• الإشعارات اللحظية: كلما تلقى المستخدم إشعارًا بوجود إعجاب، يتم تفعيل استجابة “الانتظار والتحفيز”، ما يدفعه لفتح التطبيق.

• التصميم التفاعلي باللون الأزرق: اللون الأزرق يبعث على الهدوء ويشجع المستخدم على البقاء، وهو اللون الأساسي لفيسبوك.

آثار طويلة المدى على الصحة النفسية

رغم أن الإعجابات تمنح دفعة مؤقتة من السعادة، إلا أن الاعتماد المستمر على هذا النوع من التقدير الرقمي قد يؤدي إلى عدة مشكلات نفسية:

• تدني احترام الذات: عندما ترتبط قيمة الشخص بعدد الإعجابات، فإنها تصبح عرضة للتقلبات.

• القلق الاجتماعي: الخوف من عدم الحصول على إعجاب كافٍ يجعل بعض المستخدمين يترددون في التعبير عن أنفسهم.

• اضطراب النوم: الإفراط في تفقد التفاعل الليلي قد يؤدي إلى اضطرابات في النوم.

• الإدمان الرقمي: يقضي البعض ساعات يوميًا في محاولة نشر محتوى فقط للحصول على إعجابات.

الفرق بين التفاعل الواقعي والتفاعل الرقمي

في العلاقات الواقعية، يحصل الدماغ على إشارات اجتماعية متنوعة، مثل نبرة الصوت، لغة الجسد، ونظرات الآخرين، مما يساهم في شعور عميق بالتواصل. بينما في التفاعل الرقمي، يُختزل هذا التواصل في رموز رقمية (Like, Share, Comment) تفتقر إلى العمق العاطفي والواقعي.

رغم أن الدماغ يتفاعل مع هذه الرموز وكأنها إشارات واقعية، إلا أن افتقارها للمعنى الوجداني العميق يجعلها أحيانًا مصدرًا للفراغ العاطفي، خاصة عند الاعتماد المفرط عليها.

كيف تحولت الإعجابات إلى عملة نفسية رقمية؟

أصبح زر “الإعجاب” في العصر الحديث شكلاً من أشكال “العملة النفسية” التي تحدد مكانة الفرد داخل الفضاء الرقمي. يُنظر إلى عدد الإعجابات كمؤشر على النجاح، الجاذبية، أو حتى الذكاء، وهو ما يجعل المستخدمين يسعون باستمرار لتحقيق هذا المقياس.

هذه العملة لا تتعلق فقط بالمستخدمين العاديين، بل تشمل أيضًا المؤثرين، الشركات، وحتى السياسيين الذين يقيسون مدى تأثيرهم أو قبولهم بناءً على عدد الإعجابات.

هل يمكن إعادة ضبط استجابات الدماغ للإعجابات؟

يشير علماء النفس العصبي إلى أن الدماغ يمتلك خاصية اللدونة العصبية (Neuroplasticity)، أي القدرة على إعادة تشكيل نفسه وفقًا للخبرات الجديدة. من خلال إدخال سلوكيات بديلة، مثل التفاعل الواقعي، النشاط الجسدي، أو التأمل الواعي، يمكن تقليل الاعتماد النفسي على “الإعجابات” كمصدر للسعادة.

كما يُنصح بتقنين استخدام المنصات، وعدم ربط القيمة الذاتية بالتفاعل الرقمي، والتركيز على جودة المحتوى أكثر من الكمية.

الخاتمة

إن تلقي “لايك” على منشور فيسبوك ليس مجرد تفاعل رقمي بسيط، بل هو عملية معقّدة تشمل تفاعلات كيميائية في الدماغ، وتؤثر بشكل مباشر على المشاعر والسلوك. استخدام الإعجابات كأداة تحفيزية يستغل آليات تطورية عميقة في النفس البشرية، مما يجعلنا أسرى لهذه التفاعلات الرقمية دون أن نشعر.

ولأن هذه التفاعلات تحمل جانبًا من المتعة والإشباع، فإنها تحتاج إلى وعي وتحكم ذاتي حتى لا تتحول إلى مصدر ضغط نفسي أو سلوك إدماني. إدراكنا لما يجري في عقولنا عند رؤية “لايك” هو الخطوة الأولى نحو استخدام أكثر وعيًا وصحة لمنصات التواصل الاجتماعي.

المراجع:

1. Andreassen, C. S., & Pallesen, S. (2014). Social network site addiction – An overview. Current Pharmaceutical Design.

2. Meshi, D., Tamir, D. I., & Heekeren, H. R. (2015). The emerging neuroscience of social media. Trends in Cognitive Sciences.