تأثير اكتمال البدر على الإنسان

تأثير اكتمال البدر على الإنسان

منذ فجر التاريخ، لفت اكتمال البدر أنظار البشر، وأثار فضولهم وتساؤلاتهم حول تأثيره في الطبيعة والإنسان. لقد ارتبط القمر، خاصة عند اكتماله، بمظاهر شتى تشمل الاضطرابات النفسية، وتغيّرات في السلوك، وحتى في فسيولوجيا الجسم البشري. وبالرغم من أن العديد من هذه الاعتقادات تنبع من الموروث الثقافي والأساطير، إلا أن الأبحاث الحديثة في علم النفس والطب والجغرافيا الحيوية تشير إلى وجود روابط محتملة، وإن كانت معقدة وغير محسومة، بين اكتمال القمر وسلوك الإنسان وحالته الصحية والنفسية.

القمر عبر التاريخ البشري: من الأسطورة إلى العلم

في الثقافات القديمة، غالباً ما رُبط البدر بالسحر، والجنون، والتحولات الغامضة. الكلمة اللاتينية “lunaticus” التي اشتُق منها مصطلح “لوْناتيك” (مجنون) تشير بوضوح إلى العلاقة التي اعتقد القدماء أنها قائمة بين القمر والجنون. وقد تم توثيق هذه الفكرة في الفلسفة اليونانية، والطب في العصور الوسطى، وكذلك في الأدب العالمي، كما في أعمال شكسبير.

لكن ما بدأ كمجرد موروث شعبي، أصبح موضعاً لاهتمام الأبحاث الحديثة في علم النفس والسلوك البشري، وهو ما فتح الباب لدراسة معمقة للعلاقة بين دورة القمر وتأثيرها المحتمل على الإنسان.

التغيرات السلوكية والنفسية خلال اكتمال البدر

تشير تقارير كثيرة إلى حدوث تغيرات ملحوظة في سلوك الإنسان أثناء فترة اكتمال القمر. وتتضمن هذه التغيرات:

1. زيادة معدل القلق والتوتر

عدد من الدراسات ربط بين اكتمال البدر وارتفاع مستويات القلق لدى بعض الأفراد، وخاصة ممن يعانون من اضطرابات نفسية سابقة. في دراسة نُشرت في مجلة Psychiatric Services، لاحظ الباحثون ارتفاعاً طفيفاً في زيارات أقسام الطوارئ النفسية في المستشفيات خلال الليالي التي يظهر فيها القمر بدراً.

2. اضطرابات النوم

من أبرز التأثيرات الموثقة لاكتمال القمر على الإنسان هي اضطرابات النوم. توصلت دراسة نُشرت في Current Biology إلى أن معدل النوم العميق ينخفض بنسبة تصل إلى 30% خلال ليالي البدر، وأن الوقت الذي يستغرقه الفرد للدخول في النوم يزداد، رغم إغلاق الغرف بالكامل عن الضوء الطبيعي.

يرى بعض الباحثين أن هذا التأثير يعود إلى إشعاع ضوء القمر الساطع ليلاً، مما يؤدي إلى خلل في إنتاج هرمون الميلاتونين المسؤول عن تنظيم النوم.

3. التقلبات المزاجية وزيادة السلوك العدواني

في تقارير من أقسام الشرطة والمستشفيات، لوحظ ارتفاع طفيف في حالات السلوك العنيف والمشاجرات أثناء اكتمال القمر. وعلى الرغم من أن العديد من هذه البيانات لا تصل إلى مستوى الدليل القاطع، إلا أن تكرار الملاحظات في بلدان مختلفة يدفع الباحثين إلى عدم إهمال هذا الرابط.

التفسيرات الفسيولوجية والعلمية للتأثيرات

1. تأثير القمر على سوائل الجسم

يشير بعض العلماء إلى أن للقمر، عندما يكون بدراً، تأثيرًا على سوائل الجسم يشبه تأثيره على المد والجزر. بما أن جسم الإنسان يتكوّن من أكثر من 70% من الماء، يفترض البعض أن الجاذبية القمرية قد تؤثر على حركة السوائل داخل الجسم، خصوصاً في الدماغ والجهاز العصبي، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية وسلوكية.

ورغم أن هذا الافتراض يبدو منطقياً ظاهرياً، فإن قوة الجذب التي يؤثر بها القمر على جسم الإنسان تُعتبر ضئيلة جداً حسب المقاييس الفيزيائية، ما يجعل هذا التفسير محل جدل كبير بين الأوساط العلمية.

2. التأثير الضوئي على الغدة الصنوبرية

الضوء الساطع المنبعث من البدر يمكن أن يؤثر على الغدة الصنوبرية، وهي المسؤولة عن إفراز الميلاتونين. هذا الهرمون ينظم الساعة البيولوجية والنوم، وانخفاض مستوياته يؤدي إلى اضطرابات في النوم، مزاج مكتئب، وقلق مفرط. وفي ظل إشعاع البدر القوي، حتى في المناطق المظلمة، يمكن أن تتأثر هذه الغدة بشكل ملحوظ.

3. العوامل البيئية المصاحبة

لا يمكن تجاهل دور العوامل البيئية التي قد تتزامن مع اكتمال القمر مثل ارتفاع نسبة الرطوبة، تغير درجات الحرارة ليلاً، أو حتى التأثيرات النفسية الناتجة عن المعرفة المسبقة بوجود القمر المكتمل، مما يخلق حالة من الترقب والتوتر لدى بعض الأفراد.

تأثير اكتمال القمر على الصحة العقلية

تم رصد تأثيرات محتملة لاكتمال القمر على عدد من الحالات النفسية، أهمها:

– اضطراب ثنائي القطب

بعض الدراسات أشارت إلى أن نوبات الهوس في اضطراب ثنائي القطب قد تتزامن مع اكتمال القمر. لكن هذه الدراسات ما تزال أولية وتحتاج إلى مزيد من البيانات لضمان الموثوقية.

– الذهان والفصام

تشير تقارير غير رسمية إلى زيادة في أعراض الذهان خلال اكتمال البدر، مثل الهلوسة والبارانويا، لكنها لم تجد دعماً قوياً من الأدلة التجريبية. ورغم ذلك، فإن الأطباء النفسيين لا يستبعدون وجود عامل تحفيزي غير مباشر مرتبط بدورة القمر.

– الصرع

أفادت بعض الأبحاث بارتفاع طفيف في حالات النوبات الصرعية عند البدر، وقد فُسر ذلك بافتراض تأثير الجاذبية القمرية على كهرباء الدماغ، إلا أن هذه الفرضيات تحتاج إلى دراسات أوسع نطاقاً لإثباتها.

العلاقة بين اكتمال البدر والسلوك الإجرامي

تم توثيق تقارير شرطية في دول مثل المملكة المتحدة وأستراليا والولايات المتحدة تفيد بزيادة ملحوظة في البلاغات المتعلقة بالعنف أو السلوكيات العدوانية خلال ليالي اكتمال القمر. بعض المحللين يرون في هذا التأثير صدىً لاعتقادات راسخة في الثقافة العامة، ما يولد سلوكاً متأثراً بتوقعات داخلية (placebo effect)، بينما يرى آخرون أن هناك علاقة غير مباشرة جديرة بالدراسة.

التأثيرات الفلكية والمغناطيسية الممكنة

رغم أن القمر لا يمتلك مجالاً مغناطيسياً مشابهاً للأرض، إلا أن اقترابه النسبي خلال بعض فترات اكتماله (ظاهرة السوبر مون) قد يرافقه تغير في الحقول المغناطيسية الأرضية، مما يؤثر على الدماغ البشري، خاصة لدى الأفراد الذين يعانون من فرط الحساسية الكهرومغناطيسية.

الجدول التالي يوضح بعض التأثيرات المحتملة لاكتمال القمر على الإنسان وفق الأدبيات العلمية:

الخلاصة العلمية الحالية

مع أن العديد من الدراسات تشير إلى وجود صلة بين اكتمال البدر وبعض التغيرات النفسية والسلوكية، إلا أن الأدلة لا تزال غير حاسمة. ويرجع السبب في ذلك إلى التداخل المعقد بين العوامل البيئية، البيولوجية، والنفسية التي قد تؤثر على النتائج. ومع ذلك، فإن الاهتمام العلمي بدراسة هذه الظاهرة لا يزال مستمراً، إذ يشكل القمر جزءاً من الإيقاع الطبيعي لحياة الإنسان منذ الأزل.

بغض النظر عن صحة هذه التأثيرات من عدمها، فإن القمر، عند اكتماله، يظل رمزاً كونياً يجذب انتباه الإنسان ويؤثر في وجدانه، سواء عبر السحر البصري الذي يضفيه على سماء الليل أو عبر الأساطير والمعتقدات التي تراكمت حوله عبر قرون من التاريخ البشري.

المراجع:

1. Cajochen, C. et al. (2013). Evidence that the lunar cycle influences human sleep. Current Biology, 23(15), 1485-1488.

2. Zimecki, M. (2006). The lunar cycle: effects on human and animal behavior and physiology. Postępy Higieny i Medycyny Doświadczalnej, 60, 1-7.