تُعد السنة الهجرية من أبرز المحطات الزمنية في التاريخ الإسلامي، إذ تمثل نقطة تحول كبرى في مسيرة الدعوة الإسلامية، وذلك لما تحمله من دلالة روحية وتاريخية وعقائدية. انطلقت هذه السنة مع الحدث الجليل المعروف بـ”الهجرة النبوية” من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهو الحدث الذي أسس به المسلمون دولتهم الأولى، ورسّخ قواعد المجتمع الإسلامي على أسس العقيدة والعدل والمساواة.
تعريف السنة الهجرية
السنة الهجرية هي التقويم الإسلامي الذي يعتمد على الدورة القمرية في تحديد الأشهر. ويتكون العام الهجري من 12 شهرًا قمرية، يبلغ مجموعها 354 أو 355 يومًا، ما يجعله أقصر من السنة الميلادية بحوالي 11 يومًا. تبدأ السنة الهجرية بشهر “محرم”، وتضم أشهرًا مقدسة وأخرى ذات دلالات شرعية وتاريخية كبيرة، مثل “رمضان” و”ذو الحجة”.
خلفية تاريخية لتحديد بداية التقويم الهجري
لم تكن الهجرة النبوية نفسها هي بداية التقويم الإسلامي الفعلي في حياة الرسول محمد ﷺ، بل جاءت لاحقًا بعد وفاته. ففي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتحديدًا في السنة السابعة عشرة للهجرة (638 ميلادية)، طُرحت الحاجة إلى توحيد التقويم الإسلامي وتحديد مرجعية زمنية ثابتة لتوثيق الأحداث والمراسلات الرسمية بين الدولة الإسلامية والولايات المختلفة.
جاءت هذه الحاجة نتيجة ورود كتاب من والي البصرة، أبو موسى الأشعري، إلى الخليفة عمر يطلب فيه ضبط التأريخ للرسائل الرسمية، إذ كانت الرسائل تفتقر إلى تحديد السنة أو الشهر. اجتمع عمر بن الخطاب مع الصحابة للتشاور في اختيار نقطة انطلاق للتقويم. تنوعت الاقتراحات، فبعضهم اقترح مولد النبي محمد ﷺ، وآخرون بعثته، ولكن الأغلبية اتفقت على أن الهجرة النبوية تمثل الحدث الأهم في التاريخ الإسلامي، لما لها من دلالة في انتقال الإسلام من مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة والتنظيم.
وبهذا القرار، تقرر أن تكون سنة الهجرة هي السنة الأولى في التقويم الإسلامي، وبدأ أول يوم من محرم، أول شهور السنة الهجرية، هو البداية الرسمية للتقويم.
لماذا اختير شهر محرم كبداية للسنة الهجرية؟
على الرغم من أن الهجرة النبوية وقعت في شهر ربيع الأول، إلا أن شهر “محرم” اختير ليكون بداية السنة الهجرية لعدة أسباب تاريخية ومنهجية. فقد كان محرم بالفعل بداية العام في التقويم العربي قبل الإسلام، وكان من الأشهر الحُرُم التي تُعظَّم فيها الحروب وتُحرَّم فيها القتال. ولأن المسلمين أرادوا الاستفادة من السياق الزمني السائد في جزيرة العرب، تقرر أن يُحافظ على هذا الترتيب، ويُجعل من محرم بداية للتقويم الجديد.
الهجرة النبوية: دلالة الحدث
الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، بل مثلت تحوّلًا جذريًا في مشروع الإسلام الحضاري. فهي الحدث الذي نقل المسلمين من مرحلة الاستضعاف والاضطهاد في مكة، إلى مرحلة بناء الدولة والمؤسسات في المدينة المنورة. حملت الهجرة معاني الصبر والتخطيط والتضحية والثقة المطلقة في وعد الله، حيث خرج النبي ﷺ من مكة تاركًا وراءه موطنه وعشيرته، مهاجرًا في سبيل دعوته واستمرارية رسالته.
أثر التقويم الهجري في الحياة الإسلامية
ارتبطت الكثير من العبادات الإسلامية بالتقويم الهجري، ما جعل له أهمية مركزية في حياة المسلمين. فشهر رمضان الذي يصوم فيه المسلمون يقع في هذا التقويم، وكذلك الحج في شهر ذو الحجة، وعيد الأضحى وعيد الفطر، وصيام عاشوراء في محرم، كلها عبادات مرتبطة بدقة في هذا التقويم.
ولا تقتصر أهمية التقويم الهجري على الجوانب الدينية فقط، بل يمتد أثره إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية والتعليمية، إذ تعتمد الدول الإسلامية عليه في تحديد الإجازات الدينية، وتنظيم الفعاليات الدينية، وإحياء المناسبات التاريخية مثل المولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، وغيرها.
أسماء أشهر السنة الهجرية
يضم التقويم الهجري اثني عشر شهرًا، وهي:
| الرقم | اسم الشهر | ملاحظات دينية وتاريخية |
|---|---|---|
| 1 | محرم | من الأشهر الحُرُم وصيام عاشوراء فيه مستحب |
| 2 | صفر | وقعت فيه بعض الغزوات في التاريخ الإسلامي |
| 3 | ربيع الأول | ولد فيه النبي محمد ﷺ وهاجر فيه |
| 4 | ربيع الآخر | استمر فيه بناء المجتمع المدني الإسلامي |
| 5 | جمادى الأولى | من أشهر الشتاء في الجزيرة العربية قديمًا |
| 6 | جمادى الآخرة | من الأشهر التي وردت فيها بعض الغزوات |
| 7 | رجب | من الأشهر الحُرُم وفيه الإسراء والمعراج |
| 8 | شعبان | ترفع فيه الأعمال السنوية، ويُستحب الصيام فيه |
| 9 | رمضان | شهر الصيام، نزل فيه القرآن، شهر المغفرة |
| 10 | شوال | أول أيامه عيد الفطر، وصيام الست منه سنة مؤكدة |
| 11 | ذو القعدة | من الأشهر الحُرُم، وفيه توقف القتال استعدادًا للحج |
| 12 | ذو الحجة | فيه مناسك الحج وعيد الأضحى |
الفرق بين السنة الهجرية والميلادية
الفرق بين التقويمين الأساسي هو أن السنة الميلادية تعتمد على الدورة الشمسية وتبلغ 365 أو 366 يومًا، بينما السنة الهجرية تعتمد على الدورة القمرية وتبلغ 354 أو 355 يومًا. هذا الفرق يسبب تقدم التاريخ الهجري كل عام بنحو 11 يومًا عن التاريخ الميلادي، مما يؤدي إلى تغير توقيت المناسبات الدينية الهجرية في التقويم الميلادي سنويًا.
اعتماد التقويم الهجري رسميًا
في بداية الدولة الإسلامية، لم يكن هناك توثيق زمني دقيق للسنوات. لكن بعد تأسيس الدولة وتوسعها، بدأت الحاجة إلى تقويم دقيق، خاصة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث أصبح من الضروري ضبط المراسلات الرسمية، وتحديد مواعيد الزكاة والحج وغيرها. فتم اعتماد التقويم الهجري رسميًا كأساس زمني للدولة الإسلامية، واستمر اعتماده في معظم الدول الإسلامية حتى العصر الحديث، ويُستخدم اليوم بشكل موازي للتقويم الميلادي في دول مثل السعودية وبعض الدول الأخرى.
استخدامات التقويم الهجري اليوم
ما زال للتقويم الهجري حضور فعّال في الحياة اليومية للكثير من المسلمين، خاصة في الدول الإسلامية التي تعتمد عليه رسميًا أو جزئيًا. ومن أبرز استخداماته المعاصرة:
-
تحديد بدايات الشهور لمعرفة مواقيت العبادات كالصوم والحج.
-
إصدار الفتاوى الفقهية المرتبطة بالمواقيت.
-
تنظيم المناسبات الدينية والاجتماعية.
-
توثيق الأحداث الشرعية مثل الولادة والزواج والوفاة في بعض الدول.
التحديات المعاصرة في اعتماد التقويم الهجري
أحد أبرز التحديات في اعتماد التقويم الهجري بشكل موحد بين الدول الإسلامية هو اختلاف طرق تحري رؤية الهلال من بلد إلى آخر، مما يؤدي إلى تباين في بداية الشهور الهجرية. بعض الدول تعتمد الرؤية بالعين المجردة فقط، وأخرى تستخدم الحساب الفلكي. وهذا التباين يسبب اختلافًا في بداية ونهاية الشهور، وخاصة في رمضان والعيدين، وهو أمر مثار جدل فلكي وفقهي مستمر.
الخلاصة
إن بداية السنة الهجرية لم تكن مجرد تأريخ زمني جديد، بل هي تأريخ لمرحلة حاسمة في تاريخ الإسلام، وتحويل لمجرى الدعوة الإسلامية نحو العالمية والتنظيم المؤسساتي. اعتماد الهجرة النبوية كنقطة بداية للتقويم الإسلامي يعكس مكانة الحدث في وعي الأمة الإسلامية، ويعزز من رمزية الهجرة كمبدأ في بناء الحضارة الإسلامية. ورغم مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا على هذا الحدث، ما زالت السنة الهجرية حاضرة في وجدان المسلمين، ومؤثرة في حياتهم، وقادرة على الربط بين ماضي الأمة وحاضرها.
المصادر والمراجع
-
الطبري، تاريخ الرسل والملوك
-
ابن كثير، البداية والنهاية
-
عبد العزيز الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب
-
مركز الفلك الدولي – تقارير فلكية حول رؤية الهلال
-
الموسوعة الإسلامية الشاملة (Islamweb.net)
-
موقع دار الإفتاء المصرية – مقالات حول التقويم الهجري
