انحراف الشباب.. من المسؤول؟

يعد انحراف الشباب من الظواهر الاجتماعية التي تشغل بال المجتمعات الحديثة والمتقدمة على حد سواء، لما له من تأثيرات سلبية عميقة تمتد إلى الفرد والأسرة والمجتمع بأسره. يعبر انحراف الشباب عن ابتعادهم عن القيم والأعراف الاجتماعية المقبولة، وانخراطهم في سلوكيات مخالفة للقوانين والأخلاق، مثل العنف، وتعاطي المخدرات، والتخريب، والجريمة، والتشرد، وغيرها من المظاهر التي تهدد أمن المجتمع واستقراره. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: من المسؤول عن انحراف الشباب؟ هل تقع المسؤولية على الشباب أنفسهم فقط، أم أن هناك عوامل ومؤسسات أخرى تلعب دوراً محورياً في هذه الظاهرة؟

مفهوم انحراف الشباب

يمكن تعريف انحراف الشباب بأنه سلوكيات وتصرفات تنحرف عن المعايير والقيم المجتمعية المقبولة، وتخالف القوانين والتقاليد التي تحكم المجتمع. هذا الانحراف يظهر عادةً في فترة المراهقة والشباب المبكر، حيث يمر الفرد بمرحلة انتقالية مهمة بين الطفولة والرشد، مصحوبة بتغيرات نفسية واجتماعية وجسدية كبيرة.

انحراف الشباب هو نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل شخصية واجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية، ولا يمكن اختزاله في سبب واحد فقط. فهو ليس ظاهرة فردية فقط، بل هو انعكاس لمجموعة من المشكلات البنيوية التي يعاني منها المجتمع.

العوامل المؤدية إلى انحراف الشباب

1. العوامل الأسرية

تلعب الأسرة الدور الأساسي في تكوين شخصية الشباب وتشكيل اتجاهاتهم وسلوكياتهم. تفتقر العديد من الأسر إلى القدرات التربوية الصحيحة التي تساعد على توجيه أبنائهم نحو السلوك السليم. ومن أبرز مظاهر الخلل في الأسرة التي تؤدي إلى انحراف الشباب:

• الانفصال الأسري أو التفكك: يؤدي غياب أحد الوالدين أو كلاهما، أو النزاعات الأسرية المستمرة، إلى شعور الشباب بالإهمال والضياع، ما يدفعهم إلى البحث عن بدائل في الخارج قد تكون ضارة.

• الأساليب التربوية القاسية أو المتساهلة: بعض الأسر تمارس قسوة مفرطة تؤدي إلى تمرد الشباب، في حين أن التساهل المفرط وعدم وجود ضوابط يتيح للشباب الانحراف بسهولة.

• غياب الحوار والتفاهم: عندما يغيب التواصل الحقيقي بين الوالدين وأبنائهم، يشعر الشباب بالعزلة، ويبحثون عن مصادر تأثير أخرى قد تكون سلبية.

• ضعف الرقابة الأسرية: في بعض الحالات، تغيب الرقابة الكافية على تحركات وسلوكيات الشباب، مما يتيح لهم الانخراط في أنشطة خاطئة.

2. العوامل التعليمية

تلعب المؤسسات التعليمية دوراً مهماً في تشكيل وعي الشباب وغرس القيم الأخلاقية والاجتماعية في نفوسهم، لكن هناك عوامل داخل النظام التعليمي قد تؤدي إلى انحراف الشباب:

• نقص التوجيه والإرشاد النفسي: الكثير من المدارس والجامعات تفتقر إلى برامج إرشاد نفسي واجتماعي فعالة تساعد الطلاب على التعامل مع مشاكلهم ومخاوفهم.

• ضعف جودة التعليم: نظام تعليم يركز فقط على الحفظ والتلقين دون تنمية مهارات التفكير الناقد والوعي الاجتماعي، يخلق جيلًا ضعيف الشخصية وسهل الانحراف.

• التنمر المدرسي والعنف بين الطلاب: بيئة تعليمية غير صحية تزيد من توتر الشباب ودفعهم إلى السلوك العدواني أو الانسحاب الاجتماعي.

• الضغط الأكاديمي: قد يؤدي الضغط الشديد في الدراسة إلى توتر نفسي يدفع البعض إلى البحث عن منفذ في السلوكيات المنحرفة كتعاطي المخدرات أو العنف.

3. العوامل الاجتماعية والاقتصادية

تؤثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير على توجهات الشباب وسلوكياتهم. من هذه العوامل:

• الفقر والبطالة: قلة فرص العمل، وانعدام الدخل المستقر يدفعان الكثير من الشباب إلى الإحباط واليأس، مما يجعلهم عرضة للانحراف وارتكاب الجرائم للحصول على المال أو الشعور بالانتماء.

• التهميش الاجتماعي: شعور الشباب بالتهميش أو الاستبعاد من المشاركة في القرارات المجتمعية والثقافية والسياسية يولد لديهم إحساساً بالاغتراب يدفعهم نحو السلوكيات السلبية.

• الانفلات الأخلاقي في المجتمع: المجتمعات التي تعاني من ضعف القيم والأخلاق وتغيب فيها العدالة الاجتماعية تتيح بيئة خصبة لانحراف الشباب.

• التأثير السلبي للأقران: وجود مجموعات شبابية منحرفة في نفس البيئة قد يدفع الشباب إلى الانخراط في تلك المجموعات لتجنب العزلة أو من أجل الانتماء والقبول.

4. العوامل الإعلامية والثقافية

تلعب وسائل الإعلام الحديثة، بمختلف أنواعها، دوراً محورياً في تشكيل وعي الشباب، وقد تكون سبباً في انحرافهم إذا لم تُستخدم بشكل إيجابي:

• تعرض الشباب لمحتويات غير ملائمة: انتشار الأفلام والموسيقى والألعاب الإلكترونية التي تحتوي على مشاهد عنف، وتعاطي المخدرات، والسلوكيات المشوهة، يزرع في نفوس الشباب قيمًا خاطئة.

• غياب الرقابة الأسرية والمجتمعية على الإعلام: يتيح للشباب الوصول بسهولة إلى محتوى ضار دون توجيه أو تنبيه.

• ثقافة الاستهلاك والاستهتار: التسويق الإعلامي الذي يروج لأسلوب حياة مبني على الترف والترف والتحدي والتمرد قد يبعد الشباب عن القيم التقليدية.

• التأثير العالمي: بعض القيم الغربية المستوردة لا تتناسب مع البيئة الثقافية العربية، مما يخلق صراعات داخلية لدى الشباب بين الأصالة والمعاصرة.

5. العوامل النفسية والشخصية

الجانب النفسي للفرد يؤثر بشكل مباشر على سلوكه وانحرافه:

• ضعف الثقة بالنفس: قلة الدعم العاطفي أو الإحساس بالنقص قد يدفعان الفرد إلى السلوكيات التعويضية التي قد تكون منحرفة.

• الاضطرابات النفسية: بعض الشباب يعانون من اضطرابات نفسية غير معالجة مثل الاكتئاب أو القلق، ما يزيد من احتمالية انحرافهم.

• الشعور باليأس والفراغ: فراغ نفسي أو عاطفي قد يجعل الشباب يبحثون عن ملذات مؤقتة أو طريق سريع للهروب من الواقع.

• التمرد على السلطة: مرحلة المراهقة بطبيعتها مرحلة تمرد وتجربة، لكنها قد تتحول إلى انحراف إذا لم يتم توجيهها بشكل إيجابي.

من المسؤول عن انحراف الشباب؟

في ضوء تعدد وتعقيد العوامل التي تؤدي إلى انحراف الشباب، فإن الإجابة عن سؤال المسؤولية ليست أحادية، بل هي مسؤولية مشتركة ومتعددة الأبعاد.

1. الأسرة كمسؤول أول

تبقى الأسرة المسؤولة الأولى عن تربية أبنائها، وتعزيز القيم السليمة، وتوفير بيئة آمنة وداعمة. الأسرة التي تغفل عن دورها في التربية والرعاية تفتح الباب أمام الانحراف. ولكن مع تعقيد الحياة الحديثة وضغطها، يواجه كثير من الأسر صعوبة في القيام بهذا الدور على أكمل وجه.

2. المؤسسات التعليمية

هي الجسر بين الأسرة والمجتمع، ويقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في تأهيل الشباب معرفياً وأخلاقياً، وبناء شخصياتهم، ومنعهم من الانحراف عبر برامج تعليمية وإرشادية فعالة. ضعف البرامج التربوية والإرشادية أو غيابها يسهم في زيادة نسب الانحراف.

3. الدولة والمجتمع

تمتلك الدولة مسؤولية تشريعية وتنفيذية لضبط السلوكيات عبر القوانين والأنظمة التي تردع الانحراف، كما عليها توفير فرص عمل وتنمية اقتصادية تقلل من البطالة والفقر. إلى جانب ذلك، يتوجب على المجتمع أن يخلق بيئة تضمن العدالة والفرص المتساوية لجميع الشباب.

4. الإعلام ووسائل التواصل

تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة في تشكيل الوعي، ويجب عليها أن تتحمل مسؤوليتها المهنية والأخلاقية في تقديم محتوى يراعي القيم والمبادئ، ويحذر من مخاطر الانحراف، كما يجب أن يطبق المجتمع الرقابة الذاتية على المحتوى الإعلامي.

5. الشباب أنفسهم

لا يمكن إغفال مسؤولية الشباب في اتخاذ قراراتهم الشخصية، والتزامهم بالقيم والقوانين، ومقاومة الضغوط السلبية، والسعي نحو تطوير ذاتهم. الشباب هم محور التغيير، وبإمكانهم أن يكونوا قوة بناءة إذا تم توجيههم وإعدادهم بشكل صحيح.

إجراءات وسبل الوقاية من انحراف الشباب

تطوير برامج التوعية والإرشاد النفسي والاجتماعي

يجب تعزيز وجود مراكز الإرشاد النفسي في المدارس والجامعات، وتدريب المرشدين على التعامل مع قضايا الشباب بفعالية، وتقديم الدعم النفسي والتوجيه السليم.

تعزيز دور الأسرة

ينبغي تقديم برامج تدريبية للآباء والأمهات لتعزيز مهارات التربية الحديثة، وخلق حوار مفتوح مع الأبناء، واتباع أساليب تربوية متوازنة بين الحزم واللين.

تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية

ضرورة توفير فرص عمل مناسبة للشباب، وتحسين الظروف المعيشية، وتقليل التهميش الاجتماعي، إذ تعد هذه عوامل أساسية تقلل من دافع الانحراف.

ضبط المحتوى الإعلامي

فرض رقابة مجتمعية وحكومية على المحتوى الإعلامي، وترويج البرامج التي تساهم في بناء القيم الإيجابية، ومكافحة المحتوى الضار.

تعزيز القيم والهوية الوطنية والثقافية

تعزيز الانتماء الوطني والقيمي من خلال المناهج التعليمية والنشاطات الشبابية التي تعزز الفخر بالهوية، والقيم الدينية والأخلاقية.

جدول يوضح العوامل المؤدية لانحراف الشباب وتأثيرها

خلاصة

انحراف الشباب ظاهرة معقدة متعددة الأبعاد، لا يمكن تحميل جهة واحدة مسؤولية حدوثها، بل هي نتاج تفاعل بين عوامل أسرية، تعليمية، اجتماعية، اقتصادية، إعلامية، ونفسية. معالجة هذه الظاهرة تتطلب تكاملاً وتضافراً بين الأسرة، والمدرسة، والدولة، والإعلام، والمجتمع، إضافة إلى وعي الشباب أنفسهم بمسؤولياتهم تجاه أنفسهم ووطنهم. الاستثمار في الشباب وتوجيههم بشكل صحيح هو السبيل الوحيد لضمان مجتمع صحي وآمن ومستقبل واعد.