النرجسية: من عاشق إلى عدو
النرجسية هي إحدى السمات النفسية التي جذبت اهتمامًا واسعًا في الدراسات النفسية والاجتماعية على مر العصور. وقد ارتبطت بشكل أساسي بالصورة التي يكوّنها الشخص عن نفسه، ومدى استحقاقه للإعجاب والتقدير. يعتقد النرجسيون أنهم أحقّ من غيرهم بالاهتمام، مما يجعل علاقاتهم الشخصية مع الآخرين معقدة في أغلب الأحيان، لا سيما عندما يمرون من مرحلة العشق إلى مرحلة العداء. في هذا المقال، سوف نتناول كيف أن النرجسية تتحول من “عشق” إلى “عداء”، مشيرين إلى تأثير هذه التحولات على العلاقات الشخصية وطرق التعامل مع الأشخاص الذين يعانون من هذه الصفة.
النرجسية: المفهوم والأساس النفسي
النرجسية ليست مجرد حالة عاطفية أو سلوك مؤقت، بل هي حالة نفسية معقدة تتميز بشعور مفرط بالأهمية الذاتية، وطلب دائم للإعجاب والاهتمام. يعود مصطلح “النرجسية” إلى الأسطورة اليونانية عن “نرجس”، الفتى الذي وقع في حب صورته في الماء، ليصاب بالهوس الذاتي. ولكن في علم النفس الحديث، يُستخدم المصطلح للإشارة إلى سمة شخصية تتمثل في الحاجة المستمرة إلى الإعجاب بالنفس، والتجاهل أو التقليل من قيمة الآخرين.
من الناحية النفسية، يُنظر إلى النرجسية كآلية دفاعية قد تنشأ بسبب اضطرابات في مرحلة الطفولة، حيث قد يعاني الشخص من نقص في تقديره لذاته، فيحاول تعويض ذلك من خلال الانغماس في إظهار صورته المثالية. في حالات معينة، قد تكون النرجسية مظهراً من مظاهر اضطراب الشخصية النرجسية، الذي يعبر عن نمط ثابت من الاستعلاء والحاجة المستمرة للثناء.
العشق: مرحلة الجذب والانجذاب
في بداية العلاقة مع شخص نرجسي، يمكن أن تكون الأمور جميلة للغاية. ينسج النرجسي صورة مثالية لنفسه ويظهر في أفضل حالاته، مما يجذب الآخرين إليه. يكون الشخص النرجسي مليئًا بالحماس والتقدير، مُظهرًا محبة غير محدودة ومشاعر دافئة تجاه الشخص الآخر. في هذه المرحلة، يُمكن أن يشعر الآخر بأن العلاقة مثالية، وأنه قد وجد شخصًا يستحق حبه واهتمامه.
النرجسي في هذه المرحلة يظهر بشكل جذاب للغاية، حيث يتمتع بقدرة خارقة على إغراء الآخرين. يتسم الشخص النرجسي في هذه المرحلة بالكاريزما والسحر، ويظهر في صورة من يقدّر الآخر بشكل عميق، بينما في الواقع، هو في الأساس يسعى لاستفادة مصلحية ذاتية. يكون الشخص النرجسي هنا متورطًا في تقديم أفضل نسخة عن نفسه، محاولًا تكريس صورة مثالية تعكس كيف يجب أن يكون الشخص الذي يستحق التقدير. يتم إغراق الشخص الآخر بالمديح والملاحظات الإيجابية، مما يخلق مشاعر من الإثارة والانجذاب التي تغمر العلاقة.
في هذه المرحلة، يُمكن أن يشعر الطرف الآخر بأن الشخص النرجسي هو الشخص المثالي الذي كان ينتظره طوال حياته. قد يتم توهمه بأن الحب الذي يقدمه النرجسي هو حب حقيقي، لأن النرجسي عادة ما يظهر عاطفة قوية وأفعالًا محبة، مما يخلق شعورًا بالأمان والرغبة في استمرار العلاقة.
التحول: من الحب إلى السيطرة
مع مرور الوقت، يبدأ النرجسي في تغيير سلوكه. ما كان يبدو في البداية محبة وعاطفة، يتحول تدريجيًا إلى محاولات للسيطرة والتلاعب. في هذه المرحلة، قد يبدأ الشخص النرجسي في إظهار سمات نرجسية حقيقية، مثل البحث المستمر عن الإعجاب والتقدير، وفي الوقت نفسه التقليل من قيمة الآخرين أو تجاهلهم. يصبح الشخص النرجسي الآن أقل اهتمامًا بمشاعر الآخرين وأكثر تركيزًا على حاجاته الذاتية. يظهر في علاقته نوع من التسلط الذي يتجلى في إظهار قوته وتفوقه على الآخرين.
المفاجأة الكبرى تكمن في أن الشخص النرجسي يبدأ في تقليل حجم الشخص الآخر في العلاقة، وتحويله إلى مجرد أداة لتحقيق رغباته. قد يبدأ الشخص النرجسي في الانتقاد المستمر للطرف الآخر، محاولًا تحطيم ثقته بنفسه. يصبح الطرف الآخر في هذه الحالة محاصرًا في دائرة من السلوكيات التي لا تترك له مجالًا للهرب أو للتعبير عن احتياجاته الخاصة.
العداء: النهاية المؤلمة
عندما تتطور العلاقة إلى مرحلة العداء، تتضح كل الأبعاد السلبية للنرجسية. في هذه المرحلة، قد لا يتورع الشخص النرجسي عن استخدام أساليب قاسية في التعامل مع الشخص الآخر، من بينها العنف اللفظي، التلاعب العاطفي، والإهانة المستمرة. قد يتم الانفصال عن الشخص الآخر بشكل مفاجئ وغير مبرر، ليشعر الطرف الآخر بالإهانة والانكسار.
النرجسي، في هذه المرحلة، يضيق ذرعًا بأي مقاومة أو رفض له. إذا شعر أن الشخص الآخر لم يعد يقدّره كما كان في البداية، أو إذا بدأ الطرف الآخر في انتقاد تصرفاته أو رفض تلبية احتياجاته المستمرة، فإنه قد يتحول إلى عداء صريح. في هذه المرحلة، يبدأ الشخص النرجسي في إظهار سلوكيات هدم العلاقة، متجاهلًا كل المشاعر التي كانت موجودة سابقًا. لا يُعتبر الطرف الآخر في نظره أكثر من أداة لتحقيق الرغبات، وعندما يتوقف هذا التقدير أو يصبح مرفوضًا، يصبح العداء هو السمة الرئيسية في العلاقة.
في النهاية، قد يُترك الشخص الآخر في حالة من الارتباك والتشتت، متسائلًا عن سبب التحول المفاجئ في السلوك. يجد نفسه في مواجهة مع شخص يختلف تمامًا عمن كان في البداية، مما يؤدي إلى صراع نفسي شديد قد يتطلب وقتًا طويلاً للتعافي منه.
الآثار النفسية على الضحية
الضحية في العلاقة مع شخص نرجسي قد تشعر بأنها قد فقدت هويتها وشخصيتها مع مرور الوقت. يُمكن أن يتعرض الشخص لتشويه الذات نتيجة للتلاعب المستمر والنقد المفرط من الشخص النرجسي. هذا التلاعب النفسي قد يؤثر بشكل عميق على قدرة الضحية على تقدير نفسها، مما يخلق لديها مشاعر من العجز وفقدان الثقة.
الآثار النفسية الناتجة عن علاقة مع شخص نرجسي قد تشمل الاكتئاب، القلق، الارتباك العاطفي، وفقدان الشعور بالأمان العاطفي. يمكن أن يكون الخروج من العلاقة مع النرجسي عملية معقدة للغاية، حيث يتطلب الدعم النفسي والتوجيه لاستعادة الثقة بالنفس والقدرة على استعادة الذات.
كيفية التعامل مع النرجسيين
التعامل مع الأشخاص النرجسيين يتطلب فهمًا عميقًا لطبيعتهم. في البداية، قد يبدو أن العلاقة معهم ممتعة، ولكن مع مرور الوقت، يصبح من الضروري وضع حدود واضحة للحفاظ على الصحة النفسية. يجب أن يكون الشخص مستعدًا للاحتفاظ بمسافة عاطفية وعدم السماح للنرجسيين بالتحكم في مشاعره وأفكاره. كما يُنصح بالابتعاد عن الدخول في نزاعات معهم، لأنهم قد يستغلون أي فرصة لإظهار قوتهم وسيطرتهم.
في الحالات القصوى، قد يتطلب الأمر الانفصال التام عن الشخص النرجسي للحفاظ على السلامة النفسية والعاطفية. إن التعافي من تأثيرات النرجسية ليس أمرًا سهلاً، لكنه ممكن من خلال الدعم الاجتماعي والعلاج النفسي.
الخاتمة
النرجسية ليست مجرد صفة عابرة أو سلوك مؤقت، بل هي نمط حياتي يؤثر بشكل عميق في العلاقات الشخصية. من “العشق” الذي يتمتع فيه النرجسي بتقدير الطرف الآخر، إلى “العداء” الذي يتحول فيه الشخص النرجسي إلى عدواني ومتلاعب، تكشف هذه التحولات عن الأثر الكبير للنرجسية على الصحة النفسية. في النهاية، تتطلب العلاقات مع النرجسيين الوعي والحدود الواضحة، وفي كثير من الحالات، يحتاج الشخص المعني إلى الدعم النفسي للتعامل مع العواقب المترتبة على هذه العلاقات المعقدة.
