النبوة والخلافة في الإسلام

تكون النبوة فيكم

النبوة هي إحدى أهم المفاهيم في الدين الإسلامي، حيث تعتبر مصدراً للهدى والهداية للبشرية. تعني النبوة، بشكل عام، أن يكون الشخص مُختارًا من الله عز وجل لتوصيل رسالاته إلى الناس، وبالتالي، يصبح هذا الشخص رسولًا أو نبيًا. ولكن في السياق الإسلامي، يُعتقد أن النبوة في النهاية قد اختتمت بظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ورغم هذا الاختتام، هناك مفهوم متداول بين المسلمين في الحديث الشريف: “تكون النبوة فيكم”. فما معنى هذا الحديث، وما هي دلالاته على المستوى الديني والفكري والاجتماعي؟ في هذا المقال، سوف نتناول تفسير هذا الحديث وتحليل معانيه في ضوء الفكر الإسلامي.

السياق التاريخي والروائي للحديث

الحديث “تكون النبوة فيكم” من الأحاديث التي لا تكاد تخلو منها المراجع الإسلامية التي تتعلق بموضوع النبوة. ويُذكر في الحديث أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يكون ملكًا عاضًا”. هذا الحديث يمكن أن يتم تفسيره على عدة مستويات؛ فهو يذكر بوضوح أن النبوة كانت جزءًا من حياة الأمة الإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سيأتي وقت سترتفع فيه النبوة من بين الناس ليحل محلها نظام آخر.

النبوة في الإسلام: المفهوم والغاية

قبل أن نتناول المعنى الدقيق للحديث “تكون النبوة فيكم”، من المهم فهم مفهوم النبوة في الإسلام. النبوة هي مقام اختاره الله سبحانه وتعالى لبعض البشر ليتصلوا به مباشرة من خلال الوحي، وتكمن وظيفة النبي في تبليغ رسالات الله سبحانه وتعالى إلى الناس وإرشادهم إلى الطريق الصحيح. وتعتبر النبوة من أعلى المنازل التي قد ينالها الإنسان، فالنبي ليس شخصًا عاديًا بل هو مرسل من قبل الله لقيادة الناس إلى الطريق المستقيم.

في القرآن الكريم، يشير الله عز وجل إلى النبوة بآيات عديدة، مثل قوله تعالى: “اللهُ يَصْطَفِي مِنْ مَلَائِكَتِهِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ” (آل عمران: 124). وهذا الاصطفاء يشير إلى أن النبوة ليست شيئًا يمكن للإنسان تحصيله بجهده الخاص، بل هو اختيار إلهي بحت. كما أن النبوة ليست مقامًا دائمًا للإنسان الذي يكون نبيًا، فالله يُقدّر متى يُرفع هذا المقام.

تفسير “تكون النبوة فيكم”

حديث “تكون النبوة فيكم” يُنظر إليه على أنه تأكيد على أن النبوة كانت في الأمة الإسلامية بوجود النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه النبوة هي رحمة عظيمة من الله للناس. ولكن عندما يرفع الله عز وجل النبوة، فإن هذا لا يعني قطعًا أن الأمة ستظل بلا هداية. بل يشير الحديث إلى أنه سيحل محل النبوة نظام آخر هو “الخلافة على منهاج النبوة”.

قد يعتقد البعض أن هذا الحديث يتحدث عن فترة الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن التفسير الأوسع يذهب إلى أن الحديث يشير إلى الأزمان التي تلي فترة النبوة، حيث يعبر عن استمرار الهداية والقيادة للأمة من خلال طريقة الخلافة. في هذه الفترة، ستكون الأمة الإسلامية تحت قيادة الخلافة التي تتمثل في تطبيق الشريعة الإسلامية ونظام حكم يُطابق المنهج النبوي.

دور الخلافة بعد رفع النبوة

يتفق علماء الأمة الإسلامية على أن الخلافة بعد النبوة تعني حكمًا إسلاميًا قائمًا على الشريعة، يكون له ممثلون صالحون يتبعون الخطى النبوية، ويسعون إلى إحقاق العدل والحفاظ على وحدة الأمة. ففي الواقع، يمكن أن يُنظر إلى “الخلافة على منهاج النبوة” باعتبارها استمرارية للمبادئ والقيم التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بشكل مؤسساتي مع تطور الزمان.

وقد مرّت الأمة الإسلامية بمراحل عديدة في مسيرتها السياسية، بدءًا من الخلافة الراشدة، التي كانت مثالية من حيث تطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم، وصولًا إلى الخلافات التي حدثت بعد ذلك بين مختلف الأطياف السياسية. ولكن يبقى المفهوم الأساسي للخلافة هو أن يُحكم الناس وفقًا للشريعة، وتظل المبادئ النبوية مرشدة للأمة في مختلف الأزمنة والأماكن.

تحول النبوة إلى الملك العاض

الحديث “تكون النبوة فيكم” يستمر في القول: “ثم يكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يكون ملكًا عاضًا”. هذا يعني أن الأمة الإسلامية ستشهد تحولًا تدريجيًا في شكل الحكم بعد فترة الخلافة. يتحول الأمر بعد الخلافة إلى الملك العاض، وهو نوع من الملك لا يحكم بالشورى أو بالرجوع إلى الدين، بل يعتمد على القوة والمصلحة الشخصية.

الملك العاض لا يعني بالضرورة أن الدين سيختفي تمامًا من الحياة السياسية، ولكن قد يتراجع تأثيره أو يصبح خاضعًا لمتطلبات السلطة السياسية. وهذا ما حدث بالفعل في بعض الفترات من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث أصبح الحكم ملكيًا بشكل مطلق، وابتعد عن المنهج الذي كان عليه الخلفاء الراشدين، الذين كانوا يحكمون بالشورى ويحرصون على اتباع الكتاب والسنة.

تفسيراته الفقهية والفكرية

التفسير الفقهي لهذا الحديث يتفاوت بين العلماء، حيث ينظر البعض إلى الحديث باعتباره نبوءة سياسية تحمل تحذيرًا للأمة الإسلامية بضرورة العودة إلى تطبيق منهج الخلافة النبوية بعد فترة من الزمن. من ناحية أخرى، يرى بعض العلماء أن هذا الحديث يصف تحول الأمة الإسلامية إلى نموذج سياسي جديد يتطلب إعادة التفكير في طبيعة السلطة، وفي كيفية تقويمها بما يتوافق مع تعاليم الدين.

أما على الصعيد الفكري، فقد أُثيرت العديد من الأسئلة حول مدى إمكانية تحقيق الخلافة كما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. فقد اعتبر البعض أن العوامل التاريخية والجغرافية التي مرت بها الأمة الإسلامية تجعل من الصعب العودة إلى هذا النموذج القديم. في المقابل، يرى آخرون أنه يمكن للأمة الإسلامية أن تجد نموذجًا جديدًا يعتمد على الشورى، ويحترم المبادئ النبوية ويحقق العدالة الاجتماعية والسياسية.

الخلاصة

حديث “تكون النبوة فيكم” يحمل معاني عظيمة ودلالات عميقة على مستوى الأمة الإسلامية. فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم من خلاله أن يُنبه الأمة إلى أهمية الهداية والتوجيه الإلهي في فترة النبوة، ثم التحول إلى الخلافة التي تحمل نفس القيم والمبادئ. ولكن بعد فترة من الزمن، قد ينتقل الحكم إلى نموذج آخر من الملك، الذي قد يبتعد عن المسار النبوي.

على الرغم من التحولات السياسية التي شهدتها الأمة الإسلامية، يبقى هذا الحديث بمثابة تذكير دائم للمسلمين بضرورة التمسك بالشريعة الإسلامية، والعمل وفقًا للمنهج النبوي، لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع.