الموناليزا الأفغانية: قصة الأمل والمعاناة

قصة صورة الموناليزا الأفغانية: بين الشهرة والتهديدات

تعد صورة الموناليزا الأفغانية واحدة من أبرز الصور في تاريخ الصحافة والفن في القرن الواحد والعشرين. تلك الصورة، التي أثارت العديد من الجدالات حول مفهوم الجمال، الهوية، والحرية في المجتمعات التي تعيش تحت وطأة الصراعات المستمرة، أصبحت رمزًا عالميًا للمعاناة والشجاعة في مواجهة القمع. إن قصة هذه الصورة لا تقتصر على كونها مجرد صورة فوتوغرافية، بل إنها حكاية مليئة بالأمل، الخوف، المعاناة، والتحديات التي تواجه المرأة في أفغانستان، هذا البلد الذي عانى من الحروب والنزاعات المستمرة لأجيال عديدة.

من هي “الفتاة الأفغانية”؟

في عام 1984، ظهرت صورة لفتاة أفغانية شابة تحمل عيونًا خضراء لامعة وأثرًا من الحزن العميق في وجهها. كانت هذه الصورة قد التقطت في مخيم للاجئين الأفغان في باكستان بعد الهجوم السوفيتي على أفغانستان في السبعينيات. صورتها، التي نشرتها مجلة ناشيونال جيوغرافيك في عددها الصادر في يونيو من ذلك العام، أصبحت أيقونة عالمية. تُعرف الصورة اليوم باسم “الفتاة الأفغانية”، وكانت قد التقطت بواسطة المصور ستيف ماكاري، الذي وجد في عيون هذه الفتاة قصة مليئة بالآلام والآمال، قصة تحمل بين طياتها معاناة الشعب الأفغاني في ظل الحرب والفقر.

كانت الفتاة تُدعى شاباز غولا، وكان عمرها في ذلك الوقت حوالي 12 عامًا، ولكن لم يكن أحد يعرف هويتها الحقيقية حينها. كانت الصورة جزءًا من تقرير تناول حالة اللاجئين الأفغان في باكستان، لكن لم يكن أحد يعرف الكثير عن هذه الفتاة سوى أن عيونها كانت مليئة بالحياة والأمل في وقتٍ كانت فيه أفغانستان في حالة من الدمار بسبب الحرب.

الصورة تتجاوز حدودها الجغرافية

بعد نشر الصورة في مجلة ناشيونال جيوغرافيك، أصبحت واحدة من أكثر الصور شهرة في تاريخ الصحافة المصورة. كانت الصورة قد لفتت الانتباه بسبب قوة التعبير عن الوجع والتحدي في عيون الفتاة، كما أصبحت رمزية لكل معاناة الشعوب التي تعيش في ظروف قاسية بسبب الحروب والنزاعات. لقد وضعت الصورة الضوء على مأساة ملايين اللاجئين الذين فروا من أفغانستان بحثًا عن الأمان، وهي تعكس بشكل مؤلم وضع النساء والفتيات في ظل النزاعات التي لا تنتهي.

لم تقتصر شهرة الصورة على الصحافة فقط، بل بدأت هذه الصورة تسلُك طريقها إلى عالم الفن والسياسة، حيث أُدرجت في العديد من المعارض الفنية والمشاريع الإنسانية، وظهرت في العديد من المرات في المقالات التي تسلط الضوء على معاناة الشعب الأفغاني. كانت “الفتاة الأفغانية” بمثابة شاهدة صامتة على فترة تاريخية مضطربة في أفغانستان.

البحث عن “الفتاة الأفغانية”

مرت سنوات قبل أن تنكشف هوية الفتاة التي أصبحت أيقونة ثقافية في العالم. في عام 2002، وبعد أن طافت صورة هذه الفتاة كل بقاع الأرض، قرر ستيف ماكاري العودة إلى باكستان للبحث عن هذه الفتاة، التي أصبحت مصدرًا للغموض والإلهام. كانت رغبة الصحافي في الكشف عن هويتها بدافع من الرغبة في معرفة مصيرها وماذا حدث لها بعد تلك اللحظة المأسوية التي تم تصويرها في الخمسينيات من عمرها.

بالرغم من مرور أكثر من عقدين من الزمن، كانت الحياة قد تغيرت بشكل جذري للفتاة، التي تُدعى الآن شاباز غولا. لكن العثور عليها لم يكن بالأمر السهل. فبفضل تكنولوجيا الطباعة الرقمية الحديثة، تمكن فريق ماكاري من تحديد معالم وجهها باستخدام صورة قديمة.

بعد عام من البحث والتحقيقات في المناطق النائية من باكستان، اكتشف ماكاري أخيرًا مكان شاباز غولا في عام 2002. كانت قد تزوجت في وقت سابق وأنجبت ثلاثة أطفال، وكانت تعيش في ظل صراعات ومعاناة كبيرة. وأكدت شاباز في المقابلة التي أجريت معها أنها لم تكن تعلم أبدًا أن صورتها قد انتشرت لتصبح معروفة عالميًا، إذ لم يكن لديها الوصول إلى وسائل الإعلام أو الإنترنت.

من “الفتاة الأفغانية” إلى “الموناليزا الأفغانية”

رغم أنها أصبحت في نظر الكثيرين أحد الرموز الشهيرة، لم تكن شاباز غولا تبحث عن الشهرة أو الضوء الإعلامي. وعلى الرغم من كونها جزءًا من قصة فوتوغرافية عالمية، فقد كانت حياتها مليئة بالتحديات والمخاطر. فبينما كانت الصورة تمثل معاناة المرأة الأفغانية في ظل حكم طالبان والصراعات الدموية التي لا تنتهي، كانت شاباز شخصًا حقيقيًا يعاني من الفقر، التهميش، والانتهاك لحقوق الإنسان.

وفي الوقت الذي كانت فيه الصورة تُعرض على صفحات المجلات والمواقع الإعلامية، كانت شاباز غولا تعيش حياة غير مستقرة مليئة بالتهديدات من طالبان ومن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في أفغانستان. تُظهر هذه القصة تناقضًا مذهلًا بين الصورة المثالية التي تُعرض للعالم عن أفغانستان في وسائل الإعلام وبين الواقع المؤلم الذي تعيشه النساء الأفغانيات بشكل عام.

الموناليزا الأفغانية: رمزية الفن والتاريخ

في كثير من الأحيان، يُشار إلى صورة شاباز غولا على أنها “الموناليزا الأفغانية” بسبب تأثيرها الكبير على العالم وأثرها العميق في تصوير معاناة الإنسان. مثلما كانت لوحة الموناليزا الشهيرة تمثل في عصرها لحظة من التحدي الفني والتعبير عن الجمال والتعقيد، فإن صورة شاباز غولا قد أصبحت رمزًا لآلام الشعب الأفغاني ومعاناته، خاصة النساء والأطفال.

تُظهر هذه الصورة الجمال والتعقيد في حياة الأفغان تحت الحروب، كما تُسجل تحول أفغانستان من صراع إلى آخر، ومن نظام قمعي إلى آخر. إنها ليست مجرد صورة لفتاة، بل هي مرآة تنعكس فيها معاناة شعب بأسره، كما تعكس الجهود الإنسانية المستمرة في السعي لتحسين حياة هؤلاء الناس.

الحياة بعد الصورة: القضايا المستمرة في أفغانستان

تسعى شاباز غولا اليوم إلى تقديم صورة أخرى لعالمها: صورة أمل ورغبة في التغيير. ومع وصول حركة طالبان إلى الحكم مرة أخرى في 2021، أصبحت التهديدات الأمنية والحقوقية في أفغانستان أكثر وضوحًا. ومع ذلك، تواصل شاباز غولا، التي لم تتخلَّ عن حياتها البسيطة، السعي لتحقيق حياة أفضل لأطفالها ولشعبها.

إنها قصة تمثل إرادة لا تنكسر، فرغم كل الأوقات العصيبة التي مرت بها، تُصر على البقاء قوية وتحدي كل المواقف الصعبة، تاركة وراءها صورة تحمل بين طياتها رسالة قوية عن التضحية والشجاعة في مواجهة الظلم والتمييز.