المشكلات الزوجية: مناسبات الزواج، وقفات وتأملات

مقدمة

في مجتمعاتنا العربية، تشكل مناسبات الزواج نقطة تحول كبرى في حياة الفرد والأسرة والمجتمع. فهي لا تقتصر على ارتباط رجل بامرأة ضمن إطار شرعي، بل تتعداه لتكون مناسبة اجتماعية وثقافية ودينية لها طقوسها وعاداتها الراسخة التي تُورّث عبر الأجيال. غير أن هذه المناسبات، رغم طابعها الاحتفالي، كثيرًا ما تكشف عن مشكلات كامنة في العلاقات الزوجية، وتكون في بعض الأحيان بداية لأزمات مستقبلية بدلاً من أن تكون انطلاقة لحياة مستقرة وسعيدة. هذا التناقض بين ظاهر الاحتفال وباطن العلاقات يفرض علينا وقفات تأملية عميقة في ماهية الزواج، أهدافه، وإشكالاته المتجددة.

الزواج كمؤسسة اجتماعية

الزواج هو أحد أقدم المؤسسات الاجتماعية التي وُجدت لتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس الاستقرار والتكافل والرعاية المتبادلة. وقد اكتسب صفة القداسة في معظم الثقافات والأديان، باعتباره الإطار الأمثل لإنجاب الأطفال وتربيتهم، وتكوين وحدة اجتماعية قائمة على التعاون والدعم المتبادل.

غير أن هذا التصور المثالي للزواج كثيرًا ما يصطدم بواقع تتخلله التحديات الاقتصادية، الاجتماعية، النفسية والثقافية. وفي خضم هذا الواقع المعقّد، كثيرًا ما تتحول مناسبة الزواج، التي يُفترض أن تكون نقطة انطلاق، إلى لحظة عرض لمظاهر اجتماعية زائفة، تُخفي خلفها هشاشة في النضج العاطفي، وضعفًا في الجاهزية لتحمّل المسؤولية.

مظاهر الزيف في مناسبات الزواج

تشهد مناسبات الزواج في العديد من المجتمعات العربية تضخمًا مفرطًا في المظاهر والطقوس، حتى أصبحت هذه المناسبات تُقاس بمدى فخامتها وتكلفتها، وليس بمضمونها أو أهدافها. فالقاعات الفخمة، فساتين الزفاف الباهظة، الولائم الفاخرة، وتكاليف التجميل والتصوير، أصبحت عناصر أساسية في أي حفل زفاف، بصرف النظر عن الإمكانيات المادية للعروسين.

وقد أظهرت دراسات سوسيولوجية أن الزواج الذي يبدأ بديون باهظة غالبًا ما يتعرض لهزات نفسية ومالية، تؤدي في كثير من الأحيان إلى الطلاق المبكر أو إلى علاقات مضطربة يسودها التوتر والندم. فبدلاً من أن تكون مناسبة الزواج فرصة لتأسيس حياة مشتركة على قواعد متينة، تصبح عبئًا نفسيًا واقتصاديًا، ما ينعكس سلبًا على استقرار الحياة الزوجية.

البعد الثقافي والاجتماعي للمشكلات الزوجية

المشكلات الزوجية لا تنشأ فقط من ضغوط المناسبات أو من المصاعب المادية، بل تنبع أيضًا من الفجوة الثقافية بين الطرفين أو بينهما وبين عائلاتهما. فالتوقعات المختلفة، وطبيعة التربية الأسرية، والتقاليد التي نشأ عليها كل من الزوج والزوجة، تلعب دورًا محوريًا في تحديد نمط العلاقة بينهما.

وفي كثير من الأحيان، تكون العائلات طرفًا ثالثًا في الزواج، فتفرض سلطتها على القرار الزوجي، أو تتدخل في التفاصيل الخاصة بالحياة المشتركة، ما يولد صراعات خفية أو مباشرة. وغالبًا ما تبدأ هذه التدخلات في مرحلة التحضير للزفاف، لتستمر بعد الزواج، مهددةً استقلالية القرار بين الزوجين.

الزواج كعقد وليس مجرد احتفال

الزواج، في جوهره، عقد قائم على الالتزام والاحترام والتفاهم. إنه مشروع حياة وليس مناسبة احتفالية. غير أن التركيز على الجانب الاحتفالي في المجتمعات الحديثة طغى على الوعي بالمضمون الحقيقي للزواج. كثير من الأزواج يدخلون هذا العقد دون استعداد نفسي أو معرفي، معتمدين على الرغبة العاطفية أو على ضغوط اجتماعية، دون أن يكون لديهم تصور واضح لمتطلبات الحياة الزوجية.

وفي ظل هذا القصور في التحضير النفسي والمعرفي، تنشأ الخلافات من أبسط المواقف، وتُبنى التراكمات التي تنتهي إلى انفصال عاطفي أو فعلي. فالعلاقة الزوجية تتطلب مهارات تواصل، وقدرة على تفهم الآخر، وإرادة صادقة في تجاوز العقبات، وهي أمور قلّما تُدرّس أو يُحضّر لها الأفراد.

وقفات تأملية في فلسفة الزواج

أمام هذا الواقع، تفرض المناسبة الزوجية علينا لحظات من التأمل: لماذا نتزوج؟ ما الهدف من الزواج؟ هل هو تكريس للعرف الاجتماعي؟ أم رغبة حقيقية في بناء أسرة؟ هذه الأسئلة ينبغي أن تُطرح بجدية قبل دخول القفص الذهبي.

الزواج ليس وسيلة للهروب من واقع صعب، ولا هو وسيلة لتلبية حاجات نفسية مؤقتة. إنه بناء قائم على العمل المشترك والتكافل. وفي ضوء ذلك، فإن الفشل في تحديد الأهداف الحقيقية من الزواج يؤدي بالضرورة إلى تعقيد العلاقات بعد الزواج، ويجعل من الصعب تجاوز المشكلات عند ظهورها.

الفجوة بين الرومانسية والواقع

أحد العوامل التي تُعقّد الحياة الزوجية هي الفجوة الواسعة بين التوقعات الرومانسية التي يُصورها الإعلام والأدب، وبين الواقع العملي الذي يتطلب جهدًا وتضحية. كثيرون يدخلون الزواج وهم يتوقعون حياة مثالية خالية من الخلافات، متأثرين بصور نمطية غير واقعية.

غير أن الزواج الحقيقي يتطلب القدرة على التفاوض، وتحمّل المسؤولية، ومواجهة الضغوط بشجاعة. وعندما يصطدم هذا الواقع بتوقعات مثالية، يشعر أحد الطرفين – أو كلاهما – بالخذلان، ما يُنتج الإحباط والانغلاق، وقد يتطور ذلك إلى مشكلات سلوكية أو عاطفية تهدد استمرار العلاقة.

دور الإعلام والثقافة الشعبية

تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تشكيل تصور الناس عن الزواج. المسلسلات والأفلام تطرح صورًا غير واقعية للعلاقات الزوجية، فإما تصورها مثالية أكثر مما يجب، أو ترسم صورة سوداوية تُسقط فيها كل الخلافات اليومية على الحياة الزوجية. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي تساهم في تغذية هذه الصورة، عبر عرض لحظات زفاف مبالغ فيها أو مثالية، ما يُحدث ضغوطًا غير مباشرة على المقبلين على الزواج.

ومن جهة أخرى، فإن الخطاب الديني والإعلامي، غالبًا ما يفتقر إلى الواقعية في معالجة مشكلات الزواج، إذ يكتفي بالنصائح العامة، دون تقديم آليات واقعية وعلمية لإدارة الحياة الزوجية وتجاوز الخلافات.

الجدول: مقارنة بين التوقعات الواقعية وغير الواقعية في الزواج

الطلاق كمؤشر على خلل في المفاهيم

ارتفاع نسب الطلاق في بعض المجتمعات، خاصة في السنوات الأولى من الزواج، يعكس خللًا عميقًا في مفاهيم الارتباط، وجاهزية الأفراد لتحمل مسؤوليات العلاقة. ففي الوقت الذي يُتوقع فيه من الزواج أن يكون وسيلة لتحقيق الأمان والاستقرار، يتحول في بعض الحالات إلى مصدر توتر ومعاناة، بسبب الافتقار إلى الحوار، والتمسك بالأدوار النمطية، أو التوقعات غير الواقعية.

تشير الإحصاءات في كثير من الدول العربية إلى أن الطلاق المبكر أصبح ظاهرة مقلقة، وهو ما يفرض ضرورة إعادة النظر في أساليب التثقيف الأسري، وآليات اختيار الشريك، ودور مؤسسات الزواج في تأهيل المقبلين على الارتباط.

الحاجة إلى تأهيل ما قبل الزواج

أصبح من الضروري أن تُدرج برامج تأهيل المقبلين على الزواج ضمن المنظومة الاجتماعية والتربوية، سواء من خلال المؤسسات الدينية، أو التعليمية، أو الصحية. هذه البرامج ينبغي أن تتناول الجوانب النفسية، الاقتصادية، الاجتماعية والجنسية للعلاقة، وأن تعزز مهارات التواصل وحل الخلافات.

ولعل أحد أهم محاور التأهيل هو تدريب الأفراد على الواقعية، وعلى كيفية إدارة الصراعات، وتطوير مهارات الحوار العاطفي، وتعزيز مفهوم الشراكة الحقيقية. فبدون هذا التأهيل، سيظل الزواج معرضًا للفشل، بغض النظر عن مدى فخامة الحفل أو صدق المشاعر في البداية.

الخاتمة

مناسبات الزواج، على ما تحمله من بهجة ومكانة رمزية، لا يمكن أن تُفصل عن الواقع المعقد للحياة الزوجية. وبينما ينشغل كثيرون في التحضير لليلة الزفاف، يغفلون عن الأهم: بناء علاقة إنسانية متينة قائمة على الحب المسؤول، والتفاهم العميق، والإرادة المشتركة في مواجهة التحديات. إن وقفة التأمل في فلسفة الزواج ومشكلاته هي ضرورة ملحة، لا من أجل تجنّب الفشل فقط، بل لبناء أسر سليمة، ومجتمعات متوازنة، تبدأ من الفرد وتُبنى بالمعرفة، وليس بالمظاهر.

المراجع:

• عبدالكريم بكار، تكوين المفكر، دار السلام للنشر، القاهرة.

• عفاف عطية، العلاقات الزوجية والصحة النفسية، دار الفكر العربي، 2018.